أتساءلُ إذا كانت السيّدة الجالسة أمامي الآن، هي التي عرفتُها على مدى سنين!...
وكانت بسيطة، دمثةَ الخلق، لطيفةَ الحضور، خفرة الصوت، جليّة الكلمة.
***
وهي إمرأةٌ ذكية.
وقد صنعتْ شخصيتَها بنفسها، وبالجهد، والكدّ والطموح الذي دفعها في سبُل العلم والعمل، تجاهد ولا تكلّ أو تملّ.
وقد اختارت الصحافة مجالاً لعملها، ونجحتْ.
وظلّ طموحُها يدفعها كي تتقدّم، وتبحث عن فُرصٍ جديدة، وتتجاوز دروب مسيرتها الماضية؛ الى ان توصّلتْ لتكون مستشارةً إعلامية لدى أحد أقطاب السياسة؛ خصوصاً في موسم الإنتخابات.
***
ورئيسُ عملها ليس إنساناً نافذاً وحسب، بل هو فاحشُ الثراء. وأغراها المال، بل استعبدها، كما تبنّتْ سياسةَ صاحب المال، وحنتْ رأسَها وإرادتَها ومهنتَها لخدمته، في الحق وفي الباطل.
وكنت أسمع أخبارَها، ولا أُبالي؛ فهي حرّةٌ في اختيار أسلوبها، في العمل كما في الحياة.
***
وبالأمس قدمتْ لزيارتي. وكان قد انقضى على فراقنا بضع سنوات.
ولم تَطُلْ الزيارة أكثر من بضع دقائق، إذ كانت مرتبطة بموعد رئيسها مع المسؤول في القصر المجاور. وقد اغتنمتْ المناسبة كي تمرّ بنا، وتسأل عن الأحوال.
***
كان من الطبيعي ان أرحِّب بها. إنما لم تفتْني ملاحظةُ التحوّل الذي حصل في سلوكها كما في شخصيتها:
كانت تجلسُ معنا وهي غائبة؛ فكرُها شارد بعيداً عنّا.
تُحادثْنا، لتسأل عن الأحوال، إنما لا تنتظرُ لحظةً كي تسمعَ الجواب.
***
بقيتْ عينُها على النافذة، وعلى الباب. والتلفون الجوّال يتنقّل بين يديها، ويُبقيها في حالة انتظار، كي تتلقى إشارة "مسْ كول" كما تُسميها، وتعني الرنين المختصر لإعلانِ الإتصال.
أما حديثُها خلال الزيارة المختصرة، فكان يدورُ حول الشخصيّة المميّزة، للسيّد، رئيسها، والخدمات التي يُسديها للأمَّة وللمجتمع، خصوصاً في زمنِ الانتخابات.
***
وبالطبع لم يَفُتْني تحوُّلٌ في هندامها، من الثياب الصاخبة الألوان، الى الحلى البرّاقة في غير مناسبتها.
وحتى الحذاء كان يدلُّ على القفزة النوعية في حياتِها نحو الثراء السريع.
ولدى تقديم قهوة الضيافة، راحت ترشفها، وهي منفصلة عنها وعن محيطها.
***
تائهة، مرتبكة، شاردة، وقلقة.
وهذه بعضُ صفاتٍ يمكن إطلاقُها على السيّدة الجالسة أمامي... تطرح عليّ السؤال، ولا تنتظر الردّ أو الإجابة.
تكلّمني، وعيناها زائغتان عبر النافذة، حتى شعرتُ بأنّها حاضرة فقط بجسدها، أما فكرُها فظلّ بعيداً، وهائماً في فراغ الإنتظار، وقد فُكَّ أسرُه لحظةَ رَنّ التلفون الجوّال؛ فقفزت عن مقعدها، وانطلقت كالسهم، غير مكترثة للوداع التقليدي المألوف. بلى، لوّحَتْ لنا بيدها، وكأن وقتَها لا يسمح بالمصافحة، وطقوس الوداع.
***
لم يفارقْني منظرُ المرأة تلك الليلة. وحتى بعد انصرافها اللاواعي عن مجلسنا.
وكنتُ أتساءلُ:
وهل يكون هذا ثمناً للنجاح؟
***
ولن أجيبَ عن السؤال.
لكن ما جرى ردّني الى اعتقادي الراسخ، بأن الفرق بين شخص وآخر، هو في موقفه من الأحداث، بسلبِها وإيجابِها؛ فلا يسمح لرأسه أن يَنحني في أحوال الضعف والإنكسار؛ كما لا يسارعُ الى الشموخ في حال النجاح.
ومهما بلغ به الأمر، يتمسّكُ بالعقل، ويتأمّل في الأعماق، لكي يفهم ما يجري له، ومن حوله، من تحوّلات.
وهذا ما يميِّزُ إنساناً عن سواه من بني البشر.