جبل يهوي

يوم مرهق،لم ترحم المديرة أحدًا،رفضت تقريري زهران وعبدالمولى، ورمت دراسة آية في سلة المهملات، وردت لي ملف التقييم المالي الذي أعددته مع زميلتي رابعة،بدا واضحًا أنها لم تكن في أفضل حالاتها، شعرها مشدود بصرامة إلى الخلف، وعيناها محاطتان بهالتين قاتمتين، ولونها مخيف وشاحب.

«أنا أعمل مع فريق من الفاشلين»، صرخت فينا «أخطاء بالجملة،أرقام متناقضة، ومعلومات لا تستند إلى مصادر، وصياغة ركيكة، وكوارث إملائية، وطباعة لا ينجزها مبتدئ، عار والله عار! أعيدوا كتابة التقارير...»

عدنا إلى مكاتبنا خائبين، مديرتنا من أكفأ مسؤولي الشركة، اختارتنا للعمل كفريق متميز، ودأبت على حرق أعصابنا بمطالبها الصعبة وشروطها القاسية.

أفرغت رابعة أدراج مكتبها وهي تبحث عن المفتاح الإلكتروني الذي سجلت فيه معطيات تقريرنا، جذبت كرسيًا قربها، والتفتت إلى زملائي، زهران يدخن وظهره إلينا، نصفه العلوي يطل من النافذة، ويسراه تمسك ورقة تحركها بخفة نسمات الصباح الباردة، عبدالمولى يدمدم وعيناه معلقتان بشاشة حاسوبه، آية تصحح أوراقها.

فشلنا في العمل كمجموعة، ينتهي بنا الأمر دائمًا إلى تقسيم المهام بيننا، ينكب كل منا في ركنه على العمل المنوط به، ويدير ظهره للآخرين، قليلا ما نتشاور، ونادرا ما نطلب المساعدة.

«وأخيرا..وجدته» لوحت رابعة أمامي بمفتاحها الالكتروني،دسته في فتحة الحاسوب، وبدأنا نراجع الملف.

نشكل استثناء وسط المجموعة، نعمل بشكل ثنائي من حين لآخر، أستفيد من براعة رابعة في التحرير، وتعتمد عليّ في دراسات الجدولة والإحصاء.

«لنر، أنت من وضع الأرقام، تأكدي من صحتها» تنحت لي، وتنهدت بسأم وأنا أعيد مراجعة الخانات التي أحفظها، لم تكن هناك أخطاء، شعرت بالعبث وأنا أضيع وقتا يمكن استغلاله في القيام بمهام أخرى، كل هذا لأن مزاج المديرة غير رائق.

مر الوقت ببطء شديد، وسرحت رغما عني بعيدا عن بيانات الحاسوب.

لم أطبخ الغداء،سهرت أمس مع جداول التقرير، وتركت لجارتي سلة لحم وخضر، ليست المرة الأولى التي تحضر لي فيها الغداء مقابل أخذ نصف المرق، نظرت لزميلتي، كيف تتصرفان؟

لا أعرف شيئا عنهما، القاعدة في المكتب هي أن يحتفظ كل واحد بخصوصياته لنفسه.

أتممت قراءة الإحصائيات، وتنحيت لأدع زميلتي تصحح صياغة التقرير، عندما جمعتنا المديرة قالت إنها اختارتنا لكفاءتنا ولما عرف عنا من جدية والتزام، «لا أريد مقهى في المكتب،دعوا حياتكم الشخصية خارج الشركة وركزوا في الشغل».

 لم أنس كلماتها.

 لم نخيب ظنها، لا نكاد نتحدث، كل منا يضع قفلا سميكا على فمه، حتى أنا ورابعة،كلامنا لا يخرج عن نطاق الشغل.

سعلت آية، ورفعت عينيها إلى النافذة المفتوحة «هل علينا أن نتحمل كل يوم دخان سجائرك وتيار الهواء؟» سألت زهران بامتعاض، ولم يجبها، كان قد جلس إلى حاسوبه، شفتاه الزرقاوان تدندنان بلحن لا يسمعه غيره، وأصابعه الغليظة تنزلق على مفاتيح الجهاز.

» لا أرى في التقرير ما يشين...»، قالت رابعة: «هذه المرأة تريد تعذيبنا...»

شغلت الطابعة، ولاحظت أن عبدالمولى أنزل التقرير الذي يشتغل عليه أسفل الشاشة وفتح نافذة محاورة إلكترونية، التقت عيناي بعيني آية، كانت تراقبه، فاجأتها أكثر من مرة تتلصص علينا بفضول.

جمع زهران أوراق تقريره وخرج، وتبعته رابعة.

« وأخيرا بعض الأكسجين!» صاحت آية بغيظ وقامت تغلق النافذة،

شعرت بالاختناق، وخرجت بدوري، لمحت زهران يمشي ويجيء أمام مكتب المديرة، ورابعة تتحدث في هاتفها، في نهاية الممر، توجهت نحو الحمام، ولم أفاجأ حين وجدت بابه مقفلا، يفترض أن يقصر استعماله على مديري الأقسام، لكننا نقصده متى نسي أحدهم إقفاله، استدرت لأعود وأوقفتني شهقة باكية أتت من الداخل.

« ولكنني لا أستطيع العيش بدونك!»

صوت المديرة.

« اسمع..أرجوك.. أنت لا تعرف ماذا تفعل بي، لا يمكنك أن تتركني بهذه البساطة، أرجوك..أتوسل إليك...»

تسمرت مكاني وأنا لا أصدق ما أسمع،

هكذا إذن،ليست في حالة طبيعية، أفهم غضبتها هذا الصباح.

ابتعدت.

زهران لا يزال ينتظر، أمام مكتبها، زملائي في المكتب يرتبون تقاريرهم، آية تتطلع إليّ، وكأنها ارتابت في أمر.

شعرت بحرارة في خدي..

 لا دخل لي بحياة أحد، عليّ أن أفكر في غداء زوجي، يجب أن أهتم به أكثر، لا أتخيل أن أكون مكان المديرة، لا يمكن.

ارتميت على مقعدي وفي دماغي ألف سؤال.