|
قدمتها المعلمة لهن، وجالت بعينيها في الصف بحثًا عن مكان شاغر لها، رفعت يدها، وقالت إن بإمكانها أن تجلس قربها، زميلتها لم تحضر، وافقت المعلمة، اقتربت رقية، وتفحصتها منى بإعجاب.
رداؤها الصيفي أنيق، وشعرها ناعم وأملس، وعيناها خضراوان، وبشرتها بيضاء، لم يسبق لبنت في المدرسة أن نعمت بكل هذه الصفات.
وضعت حقيبة ظهرها على الطاولة، واستنشقت منى عبير عطرها الخفيف.
يا الله! ما هذا العبق!
ظلت طيلة الحصص التالية تحملق فيها.
قررت أن تكون صديقتها.
لا يجرؤ أحد على إغضاب ابنة المدير، فهمت بنات الصف سريعًا بأن منى تريد رقية لنفسها، وابتعدن عنها، رغم أنهن بقين يسترقن النظر إليها بفضول.
حازت رقية على إعجاب المدرسين، كانت ذكية للغاية، فهمت درس الرياضيات في لمح البصر، وأجابت عن كل أسئلة النص العربي، ورسمت خريطة الشمال الإفريقي دون أن تقلب أسماء الدول، وتطوعت للقيام باثنتين من تجارب درس العلوم.
عرفت منى أنها عثرت على درة ثمينة، وقررت أن تقدم صديقتها إلى والدتها.
«أين تسكنين؟ إن كان بيتك بعيدًا سأطلب من أبي أن يبعث إليك السيارة، لدينا سائق» قالت لها، وابتسمت رقية، ولمعت عيناها الجميلتان: «لا داعي لذلك، أنا أسكن في المدرسة»
مفاجأة ثانية لمنى التي لم تكن تتوقع أن تكون الفتاة التي سحرتها ابنة الحارس الجديد.
تم التعارف، وقالت زوجة المدير للفتاة: «قولي لأمك إنني أريد رؤيتها، لتأت غدًا بعد الظهر»..
رقية تشبه أمها كثيرًا، نظرت منى إلى السيدة اللطيفة التي أتت للسلام على أمها، شعرها الناعم ينسل من تحت غطاء رأسها، لونه العسلي جميل جدًّا، وعيناها الخضراوان واسعتان كعينيّ ابنتها، ورموشهما كثيفة، بشرتها بيضاء كالحليب، وابتسامتها عذبة وصافية.
بقيت الفتاة طويلاً تتأمل أم رقية وتتساءل لماذا رضيت بأن يكون والد ابنتها حارس مدرسة، أنهت والدتها الزيارة بسرعة، ووبّخت ابنتها لأنها تركت دروسها وانشغلت بامرأة لا ترقى إلى مستوى العائلة، لم تفهم منى سبب غضبها، وانسحبت بقلق وهي تفكر في الدعوة التي تلقتها من صديقتها الجديدة، متى تفاتح أمها فيها؟ لا يبدو مما قالته أنها ستسمح لها بزيارة رقية.
سمعت والديها يتشاجران بعد العشاء، وقررت أن تلبي الدعوة دون أن تقول لهما شيئًا، هي لن تغادر المدرسة في كل حال.
رافقت رقية بعد العصر إلى بيتها، لم يسبق لها أن عتبت سوره المغطى بالنباتات المتسلقة، لا مجال للمقارنة بينه وبين مسكن المدير الفسيح المحاط بحديقة مشذبة تمتد حتى الطرف الثاني من المدرسة، بيت الحارس متواضع، غرفتان ومطبخ وحمام، وممشى صغير على طول الحائط الداخلي؛ ينتهي بمربع عشب تتوسطه شجرة ليمون مثقلة بالثمار تنمو حولها حشائش وأزهار، تطلعت منى حولها باهتمام، هي منْ طلب التجول في البيت، الأرضية نظيفة جدًّا والأثاث القليل مرتب، جلست الفتاتان تحت الليمونة، وفتحت رقية دفترًا قالت إنها ترسم فيه، تطلعت منى بذهول إلى الأشكال المنسابة التي أبدعتها أنامل صديقتها، مناظر طبيعية خلابة.. حقًّا... هي منْ رسم ذلك؟
أتت أمها بشاي وشطائر خبز وزبدة، وتناولت منى بنهم ما قُدم إليها، واستمعت إلى صديقتها وهي تحدثها عن صعوبة رسم بعض الأشكال التي تراها أو تتخيلها، الطيور المحلقة مثلاً، أشارت رقية إلى سرب حمام يأوي إلى أعشاشه «أريد أن أرسمه كما أراه، من أسفل، ولكنني لا أعرف كيف.. حركته معقدة»، أنظري إلى الكيفية التي يفرد بها جناحيه، ويمد منقاره، ويشد رجليه نحو الخلف، ما أجمله!
ابتسمت، وشعرت منى بأنها تعرفت على بنت تختلف عن كل البنات اللواتي عرفتهن، وفرحت، وغمرها إحساس عميق بالطمأنينة، والألفة، والرغبة في اكتشاف الطبيعة، وحبها، والحديث عنها كما تفعل رقية..
سعادتها لم تدم..
رحل الحارس..
اقترف خطأ ما، كاتب والدها رؤساءه بشأنه، وجاء قرار نقله.
هذا ما قيل لها، وصدقته، ولم تفهم لماذا رفضت رقية البقاء على اتصال بها، ولكنها سمعت يومًا معلمة العربية تنتقد تدخل والدتها في شؤون المدرسة: «طردت الحارس بسبب غيرتها من زوجته، ما ذنب المسكينة؟ وما دخل المدرسة في حسابات امرأة مريضة ترى في كل أنثى جميلة غريمة لها؟ ما كان علينا أن نصمت...»..
لم تفهم كل شيء، ولكنها شعرت برغبة في البكاء.