سمعت قصة أعجبتني كثيرًا عن بسمارك، الذي يرجع إليه الفضل في توحيد ألمانيا، وتكوين الإمبراطورية التي تولى فيها منصب المستشار الأول. وكان بسمارك معروفًا بحنكته الشديدة، وقدرته الواسعة على الوصول إلى الحلول الدبلوماسية، وأثناء توليه زمام الأمور في ألمانيا، نشأ خلاف واسع بين روسيا القيصرية، وتركيا التي كانت في ذلك الوقت تحت حكم السلطان العثماني.. وطلب القيصر الروسي معاونة السياسي الأشهر في أوروبا في ذلك الوقت؛ ليعينهم على حل الأزمة التي احتدمت، فدعاه لزيارته في موسكو، وأنزله ضيفًا في أحد القصور الملكية المنيفة، واتفقا على بدء الاجتماعات في صباح اليوم التالي.
وكان السياسي الكبير يستيقظ كل يوم في ساعة مبكرة قبل شروق الشمس، ويخرج ليمارس رياضة المشي، ويرتب أفكاره، ويستنشق النسمات النقية للصباح الجديد، وكعادته خرج في الصباح، ولم تكن حديقة القصر الذي نزل به ضيفًا كبيرة، فخرج من البوابة بعد أن ألقى التحية على الحراس؛ ليكمل برنامجه اليومي في المشي في الغابات الخضراء المحيطة بالقصر، واستمر في السير حتى غاب القصر عن ناظريه، ووجد نفسه محاطًا بالأشجار الكثيفة، والطبيعة الخلابة، وبينما هو مستغرق تمامًا في التفكير لحل الأزمة التركية الروسية، إذْ فاجأه صوت جندي مدجج بالسلاح في نقطة وسط الحشائش والأحراش يطلب منه عدم الاقتراب! وتعجب بسمارك كثيرًا، ولكنه استجاب لتعليمات الجندي، وعاد من حيثُ أتى.
ودخل بسمارك إلى جناحه، وأكمل الاستحمام، وارتداء الملابس، وتناول الفطور، واستعد لوصول القيصر الذي جاء بنفسه ليصحبه إلى الاجتماع تكريمًا له.. وبدأ الاجتماع المهم، وكان واضحًا أن بسمارك ملبد الذهن، مشتت الفكر، فتعجب القيصر الذي كان يتوقع أن يستمتع بأداء أدهى رجل في زمنه، فسأله عما به، وإن كان به مرض أو إعياء، فأجاب بسمارك بأن هناك مسألة عرضت له في الصباح الباكر، وحاول أن يجد لها حلاً، ولكنه لم يهتدِ إليه، ولما سأله القيصر عما أهمه، قال له: إنه وجد نقطة عسكرية في قلب الأحراش في منطقة ليس لها أي أهمية، وحاول أن يفهم المغزى من هذه النقطة فلم يصل إلى نتيجة، وحاول أن يصرف تفكيره عن الموضوع فلم يتمكن.
وابتسم القيصر، واستدعى وزير الدفاع ليجد إجابة للسؤال الذي حير الضيف الألماني الكبير، ولكن الوزير لم يعرف السبب، فطلب القيصر اجتماعًا عاجلاً لمجلس الحرب الأعلى، وسأل كبار الضباط عن المغزى من وجود هذه النقطة العسكرية في قلب الأحراش، فلم يعرف أحد السبب، فازدادت دهشة القيصر، وأصر على الوصول للإجابة عن هذا السؤال المحير.
وبعد طول بحث تم التوصل إلى جنرال عجوز متقاعد، عاصر الزمن الذي صدر فيه القرار، بإضافة هذه النقطة العسكرية.. قال الجنرال العجوز: إن صاحبة الجلالة الإمبراطورة جدة القيصر ـ بينما هي حامل في أبيه ـ خرجت في أول يوم من أيام فصل الربيع لتتمشى بجوار القصر، وبينما هي في نزهتها، رأت زنبقة صغيرة تتفتح، ففرحت واستبشرت بها كثيرًا، وخافت أن يدهسها أحد بقدمه فيكون فألاً سيئًا على الجنين الذي تحمله، فطلبت من زوجها الإمبراطور أن يعين حراسة لحماية الزنبقة الصغيرة.
ومضت الأيام، وولدت الإمبراطورة، وكبر ابنها، وصار إمبراطورًا، ومات، وبقيت الحراسة مكانها!