الطريق إلى القرية في تلك الظهيرة الصيفية الحارة كان طويلاً، أما الدرب إلى بيتها فكان وعرًا، السيارة رباعية الدفع كانت ترتج بنا صعودًا، ونزولاً في أخاديد حفرتها الأمطار، وملأتها الأحجار، وأحاطت بها الأشواك، وما يشبه الأشجار.
بيتها كان مزروعًا وحده، كشجرة صبار، على تلة صخرية، في وسط بيئة هجينة، سجينة بين صحراء، وسفح جبل.
لعل صوت محرك السيارة كان غريبًا على ذلك الصمت الذي لا تقطعه غير مزامير الرياح، فأدرك أهل البيت أن ضيفًا غير متوقع اقترب.
ما كدنا نصل حتى خرجت إلينا سيدة نحيلة، متدثرة في عباءتها المتربة، وحولها ثلاثة أطفال، ولدان لا يزيد عمر أكبرهما على عشر سنوات، ورضيعة.. مظهرهم، وملابسهم تدل على أن النظافة آخر اهتماماتهم، والطعام أكثرها إلحاحًا.
الحوش الذي تعيش فيه يضم داخل سوره غرفة من الطوب الأسمنتي، بسقف من خشب وصاج، وبداخلها مطبخ صغير، مكون من فرن، ودولاب، وطاولة.. وبجوار الغرفة حمام عربي، أو شبه حمام.. وفي طرفه شجرة مربوط بها شاة حلوب، وعريشة بها بضع دجاجات.. الأبواب بالكاد تغلق، والأسقف لا تصد مطرًا، والشبابيك تصفق وتصفر، ولا ترد بعوضًا، أو ذبابًا، أو عاصفة غبار.
لا توجد كهرباء، ولا شبكة ماء.. أما الهاتف فليس على قائمة الأمنيات.. فأقرب برج جوال، أو مقسم اتصالات يبعد عشرات الكيلومترات.
الحطب والنار، الشمس والقمر، على ما يبدو، مصادر الدفء والنور لهذه الأسرة، أما الطعام، والتعليم، والعلاج.. فقصة أخرى.. مريرة.
قدمنا أنفسنا لها كأعضاء لجنة خيرية تعنى بتقديم المساعدات لسكان المناطق النائية.. بدا على الأطفال الاستغراب، والتوحش، فحاولنا التقرب إليهم بالهدايا.. كبيرهم ظل متشبثًا بأمه، يشدها إلى داخل الحوش، وعلى وجهه خوف، وتوتر.
سألناها عن مشكلته، فردت بصوت بلّدته المآسي، والمعاناة: هذه حاله منذ أكل الذئب أخاه! قاومنا الصدمة، واستوضحنا.. فقالت: غلطتي، كان يجب أن أصلح مغلاق الباب، ولكني أهملت، خرج الولد فجرًا إلى خارج الحوش، فهاجمه ذئب، وأكله.. سمعنا صراخه فأسرعنا إليه، وشاهدنا المنظر.. ومنذ تلك الليلة، وابني يخاف أن يخرج من الحوش.. «بسيطة.. يكبر وينسى».
رويت هذه القصة لقلب الأمير عبدالمجيد بن عبدالعزيز، رحمه الله، وكان أميرًا لمنطقة مكة المكرمة، وقلت له: عندما يكبر هذا الطفل، ويخرج للمدينة، سيكتشف أن هناك حياة أخرى كتبت لغيره غير حياته، فيها مدارس، ومستشفيات، ونعيم.. وأمن لا يسمح لذئب أن يأكله.. وعندها سيحمل علينا لأننا لم نسأل عنه، ونحمه، ونوفر له أساسيات الحياة الكريمة.. والله وحده يعلم ردة فعله تجاهنا.. ومعه حق.
تأثر الأمير الإنسان، وقال لنا، رئيس جمعية الأسر المنتجة، الأمير عمرو الفيصل، وكاتب السطور، «لا أرضى بذلك، ولا يرضى به عبدالله بن عبدالعزيز.. ولكنني سأحملكم جانبًا من المسؤولية لتصحيح مثل هذه الأوضاع، وأوجه بتحويل لجنتكم فورًا إلى جمعية خيرية تضم كل الشباب المتحمسين للمشاركة في الخدمة الاجتماعية».
مرت سنوات على هذه الحادثة، وقامت الجمعية، وقام غيرها من جمعيات البر والإحسان في كل مكان، مدعومة بأكثر من عشرة مليارات رصدتها الدولة لمكافحة الفقر، بتوجيه من خادم الحرمين الشريفين.. وبدأت هذه الجمعيات تركز على تدريب المعوزين، وإعادة تأهيلهم للعمل الوظيفي، وتمويلهم للاستثمار في مشاريع خاصة، بحيث تنتقل أسرهم من ضيق دائرة الاحتياج إلى آفاق الإنتاج، ومن الاعتماد على المساعدات إلى شرف الاعتماد على الذات.. وبدلاً من أن ينفق دخل هذه الجمعيات في كل عام على عدد محدود من الأسر والمشاريع، يتم تدوير الموارد من أسرة لأسرة، ومن فرد لآخر، فهذا يستلف، وهذا يسدد، وهذا يتدرب، وذاك يتخرج، فيترك مقعده لغيره، وهكذا يعم الخير ليشمل المزيد من المستفيدين كل عام.
ولكن.. تبقى الحاجة، ويبقى أن كل واحد منا مسؤول، ليس عن مساعدة من يطرق بابه، ويمر على طريقه فحسب، ولكننا جماعة وأفرادًا، مطالبون بالبحث عن أولئك الذين ليست لهم حناجر يصل صوتها إلينا، ولا أيد تمتد عبر المسافات تستجدينا، لنشاركهم في الخير الذي نحن فيه، والنعمة التي استخلفنا عليها، ولنرد عليهم الصوت عندما تهاجم عيالهم الذئاب.