قال الكلب الأسود للقطة البيضاء:
عيناك خضراوان منومتان مغناطيسيًا، سلبتا مني نباحي المخيف.
نظرت له القطة البيضاء طويلاً طويلاً، فارتمى فاقد الحس.
حين قتل الرجل الأخضر -الهابط من طبق الفضاء الطائر- طفلتين وعصفورتين وثلاث وردات بنظرة واحدة خضراء.. خضرتها ليست كخضرة الأرض، استيقظت أنا من نوم بدأ هنيئًا، في مقعدي في الشرفة المطلة على الحديقة.
كنا بين الصيف والشتاء، وهواء الخريف شاء أن يقسو ويزيد فيه البرد فأيقظني. لم يكن يفعل هذا دائمًا. في هذا الموضع من الأرض. الخريف ناعم في العادة، ناعم كالأحلام الوادعة التي من السهل قتلها.
سقط بين أحضاننا الولد المرح الوسيم، ذو الشعر الفاحم الناعم المنسدل على الجبين، ذو الوجه المبتسم والشفتين الحمراوين، الشاب الذي يبدو كطفل، وهو حقًا طفل.. في براءته وخفة ظله. لكنه حين سقط، سقط رجلاً.
كانت الرصاصة تحت ثديه اليمين، وأختها في الجبين، بين عينيه الحالمتين.
كيف تكثف الحلم في العينين؟ كيف اشتد بريقه؟ يبدو أن الرصاص قتل يقظة البدن فاحتدمت يقظة الروح. لم يقتلوك يا ولدي الجميل، بل انتحروا.
أكلمك منذ ثلاثة أيام. تنظرين لي نفس النظرة. ليلة الصيف الطويلة الساهرة التي قضيناها معًا في الشرفة، وجهًا لوجه وعينًا لعين. أيتها العينان الناعستان الماكرتان انطقا.
تلك الليلة تطل الآن من عينيك. ثلاثة أيام وأنت صامتة تنظرين وأنا أتكلم متحاشيًا عينيك.
توقفنا عن عادات الحياة. لم نذهب للعمل.. لم نفطر، لم نتغدَّ.. عشاء ليلة الأحد على المائدة ما يزال، من المؤكد أنه فسد الآن ونحن في نهار الخميس.
انطقي!
تواصلين النظر بسخرية ناعمة وشبهة احتقار، ربما بعض الحنان، وبالتأكيد كثير من المكر. تواصلين قتلي بهذه النظرة!
أدركت الآن.. أنت تقتلينني.. وسيلة مبتكرة، لا يعاقب عليها القانون ولا الدين ولا الضمير.. تقتلينني.. أدركت هذا.. وقلبي يغوص، وقبضة باطنية تزحف نحو العنق.
كانوا ثلاثة إخوة. الأول -وهو الأكبر- يعاني من حول طفيف، وحمق خفيف. كان فني المزاج، يحب الغناء لكن صوته فيه نشاز بسيط. وبالفعل صار من مطربي العصر، بنجاح ضعيف.
الثاني ـ وهو الأوسط ـ كان داهية. قصيرًا مدكوك الجسد أبجر (أي له كرش). تسلق السياسة عبر البلطجة. وصار قياديًا في حزب غامض المبادئ واضح الهدف: وهو الوثوب.
استطاع الوثوب، رغم أن جسده غير متناسق (لكنه قوي)، والآن هو من أنجح الناس في بلده. بلد الحدوتة الخيالي، الذي لا يمت إلى أي واقع بأي صلة!
الثالث كان الحالم الغاضب. الأصغر والأوسم والأذكى كما تقول لمعة عينيه. كيف انتهى في مستشفى المجانين؟
بنفوذ أخيه بالطبع. كان حماسه لأشياء غامضة على الناس قد انتهى به إلى المخفر فالمحبس فالسجن. وكان أخوه المدكوك قد حذره فلم يرتدع، وغنى له الأحول طفيف الحول طويلاً، أغنية لا تخلو من نشاز، حول ضرورة الاستماع إلى حكمة أخيهما الأوسط والحرص على سمعته في منصبه الحساس، فلم يستمع.
ظل الأصغر يكتب ويرسم ويغني في الطرقات، وينضم إلى كل حشد يتوسم فيه قلوبًا تنبض بنفس الهتاف الذي ينفض بدنه وروحه: نريد حياة حلوة تستحق أن تعاش.. حلوة تستحق أن تعاش.. تستحق.. تستحق..
اعتبروها مؤامرة دولية. وحين وصل الأصغر إلى القبضة الضخمة القابضة، تراخت بنفوذ أخيه إلى حيث تخلص من جنونه تخلصًا كاملاً ونهائيًا..
ومن يومها والفتى الشاب الوسيم يكلم الجدران في حجرة كالحة.