حَنِينٌ إِلَى النَّفْسِ!

مكثنا هناك نحترف الجلوس على المقاهي، نلوك أحاديث الكرة وجدول المباريات،

ودواعي الفقر ومسببات البطالة!

نصرخ، ونضحك من «جوانية» الفؤاد، نجري جري طفلين معا، نحمل في نفوسنا بقايا

حسرة، لا تزيلها أضواء الشارع، ولا رائحة المقهى ونقاشات المنتدى!

رغم التفاهات الصغيرة التي كانت تخترق طموحاتنا، نحمل في جوانحنا حلمًا قديمًا، مات على أطلال مدينة الصمت، أو صمت المدينة، لا فرق بين الصمتين طالما أن كل الأوجاع

تؤدي إلى تفاحة الإحباط!

هزمتنا الأشواق إلى الطفولة.. إلى شوارع «حارة المصانع» في المدينة المنيرة،

إلى مدرسة البراء بن مالك، إلى حمار حارتنا الأعرج، الذي كان مثل التلاميذ يحمل

أسفارًا من الكتب حتى إذا جاء آخر العام، أو آخر الحقل هوى بها إلى مكان سحيق!

رحلت المدرسة، وكبر الطلاب، وتغيرت طيبة الطيبة، ولم يبق إلا خيالات مبعثرة

تحاول أن تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد.. كل شيء يرحل. أليس كذلك؟!

رحلت المدرسة، ورحل معها ذلك الآيس كريم الغني بالتوت، الذي كانت تصنعه «الحاجة

عيشة»، تلك المرأة ذات السحنة الأفريقية، كانت تنادي على الآيس كريم موزعة نظراتها

المتعبة على جيوب التلاميذ!

إن الزمان لا يتوقف عند نقطة طفولتنا؛ لذا من الغباء أن نقع فيما وقع فيه ذلك الفرنسي الذي صاح عندما بلغ الستين قائلاً: «ما أجمل باريس قبل أربعين سنة»، فسأله

أحدهم: «أكانت باريس جميلة في ذلك الوقت؟!»، فاستدرك الفرنسي عبارته قائلاً: «ما أجمل باريس عندما كان عمري عشرين عامًا»!

لست أدري، هل الحنين للطفولة، هو حنين للأشياء في ذلك الوقت، أم حنين لأعمارنا

الغضة، وفتوتنا الشقية في ذلك الوقت، التي لم يبق منها الآن إلا ذكريات تبرق هنا

وتومض هناك، بعد أن مسحها الزمن، وصبغها الشيب بلونها الأبيض، طاردًا غربان الماضي؟!

يخطئ الإنسان عندما يضع المرحلة التي عاش فيها معيارًا، وميزانًا للحكم على

الأشياء، فلكل زمان عطاءاته، وإبداعاته، وعشاقه، وأكبر مظاهر الأنانية، وأسوء صور الاستنساخ، هذه الوصايا وتلك الأذواق التي يفرضها جيل على الجيل الذي يليه، ناسين -أو متناسين- في ذات الوقت وصية علي بن أبي طالب ـرضي الله عنه ـ عندما قال: «لا

تُكرهوا أبناءكم على أخلاقكم، فإنهم خُلقوا لزمان غير زمانكم»!