خرجوا ولن يعودوا

في رحلة مدرسية لم يعد منها أحد، كان الشاب محيي الدين يعاني من هوى أوغَل في عظمه، وكسا جلده بلون الورد، كانت عيناه تلمعان وشفتاه ترتعدان وجسمه يتوهج كسلك التنجستين، كان الكرسي بجوار وردة شاغرًا، وكان الزحام نحوه شديدًا، أراد أن يسبق الجميع، لكن الآخر سبقه.

غريمه عماد، قويّ العضلات، استولى على الكرسي بقدرته على شق الزحام، لم تلتفت إليه وردة، كانت تنظر من النافذة: حقول حتى حافة السماء،

عماد جذب انتباهها بتهريجه عالي الصوت مع رفاق الرحلة،

كان مشهورًا في المدرسة بصوته العالي ودرجاته المنخفضة، وتمرده الدائم على النظام في الحصص، لم يجرؤ مدرس على طرده، حتى الناظر الذي من طبقة الحكام، فقوة عماد الجسمانية مخيفة في حد ذاتها.

كان وقوع محيي الدين في حبّ منْ يهواها عماد مأزقًا خطيرًا، ما لبثت أن فاحت رائحة الورد من جسمه المحموم بالحب، لم تلتفت إليه وردة، لكن عماد انتبه.

أمسكه من صدر قميصه ورفعه في الهواء، ثم ألقاه بعنف على أرض الحوش،

كان محيي الدين شجاعًا فاندفع برأسه في بطن عماد وجندله، وانهال عليه بالركلات قبل أن يفيق فيسحقه، وامتلأ جسد عماد ووجهه بالأوجاع، والعجيب أنه لم يحاول الانتقام، أصبح يخشى محيي الدين.

اعتبر الاثنان القتال بلا فائز ولا منهزم، وانفتح مجال المسافة بينهما على حبِّ وردة، كلٍّ على قدر حبه، واجتهاده.

في يوم الرحلة كان محـيي الدين ممتلئًا بالكلام، أراد بأي ثمن أن يجلس بجوارها فيرتاح، أن يُنشـدها قصـيدته الخرساء أيًّا كان رأيــها النـقدي، كان يلــتمس من أذنــيها تحقق وجوده المؤقت، ناسيًا حكم شفتيها بالإعدام.

وآهٍ إذا التفتت فنفذت عيناها سيفين في صدره، أحدهما في القلب، والثاني في أصل الكلام، بين القلب والحنجرة واللهاة المحتقنة.

على كل حال لم يظفر بالمقعد، اقتنصه غريمه بقوة كتفيه، ولحسن حظ محيي الدين لم تأبه المحبوبة بعماد، فتعادلا مرة أخرى.

إلا أن الحافلة اصطدمت بتل رملي، صدمة ارتجّت لها الحافلة والمحبّان والمحبوبة والسماوات والأرض.

فوقع عماد بجانب وردة، وسقط محيي الدين عند قدميها.

لم تعد الحافلة المليئة بالحياة، بالحب والمرح والتفاؤل والبراءة، لم يشفع لها الغناء طول الطريق، وامتد صمت وردة المتدلل ليصير صمتًا حزينًا حتى آخر الزمن، برد جسد محيي الدين المشتعل وتوقف ارتعاد شفتيه وانطفأ الورد في خديه.

كفَّ عماد عن تباهيه بصوته العالي وجسده الممتد طولاً وعرضًا.

سكن الكون كله، في نقطة بين المدينة والبحر، في مكان ما من الصحراء الممتدة، كانت حقولاً حتى حافة السماء.