ذلك الإمبراطور في كآبته

حدثتني عنه «أولغا فلاسوفا»، «مستشرقة روسية، شابة» وجعلتني أتشوق للتعرف إليه. قالت إنه شاعر من نوع خاص، هادئ، مثقف، على خلق عظيم، وأعلمتني أنه دائم الانطواء على نفسه، يعكف على إعداد أطروحته الجامعية تحت إشراف صديقنا شيخ المستشرقين فلاديمير شاغال، وبين الحين والآخر، وكي يعيش، كان يترجم هذا النص الإبداعي أو ذاك، إلى الروسية التي بات يتقنها جيداً. وأذكر أنها وافتني بنماذج من شعره نشرتها آنذاك بمجلة «الشعر» التونسية.

هكذا أحببته عن بعد، وكنت أنتظر الفرصة المواتية للالتقاء به، حتى جاء يوم سافرت فيه إلى موسكو وهناك، وتحديداً في اتحاد الكتاب السوفييت، التقيته، ووجدته كما صورته لي أولغا: إنساناً جميلاً بأتم معنى الكلمة، رصيناً، دائم الابتسامة، خجولاً، بل أخجلني بفرط تواضعه: احتفاء بي.

ونحن نتسكع في المنتزه الثقافي فاجأني بصمته اللاطبيعي، وبشروده الرهيب، وعندما سألته: ما الجديد؟ أخرج من جيب سترته قصيدته الجديدة، وأنشأ ينشدها بصوت بالكاد يتناهى إلى مسمعي.

كانت قصيدة حبلى بالتفجع وبالألم، وما أن انتهى من إنشادها حتى أجهش بالبكاء. نعم، بكى وهو يمعن في الصمت: سؤالاً، بل لغز يبعث على الاندهاش.. لم كل هذا الحزن؟ سألته، فرجاني أن لا أسأله ثانية مثل هذا السؤال، واستدرك: أنت صديق عزيز، ولا أريد أن أقحمك في دائرتي، دائرة الاختناق. ومن يومها، لم أعد أطيق صمته الجنائزي، ولا أزعجه بأي سؤال فضولي، بل اكتفيت بما يجود به علي من كلام ومن مجاملات.

سألتني أولغا: هل قابلت عبد الرحيم أبو ذكرى؟

قلت: نعم، ولكن لماذا هو هكذا إمبراطور في كآبته؟

قالت: لا تنس أنه غريب، بعيد عن «سودانه» منذ زمن لا يستهان به، ويبدو أن به مشكلة لم يرد إلى الآن أن يبوح بها، لعلها مشكلة عاطفية مزمنة؟ ومع ذلك فقد اعتدنا على طبعه هذا، واحترمنا بالتالي، إحساسه السوداوي القاتم.

شاغال «أستاذه المؤطر» حدثني هو الآخر عنه، وامتدحه كثيراً، وأثنى على جديته، وعلى تفانيه في الدراسة. حتى سرغاي روداسيوف، أحد المهتمين بالأدب اليمني وبالشاعرين عبد الله البردوني وعبد العزيز المقالح تحديداً، هاتفني من لينينغراد، بطرسبورغ حالياً، ليسألني كيف وجدت صديقنا الطاعن في حزنه، ودعاني في الآن نفسه إلى زيارته والاطمئنان عليه.

كنت بين نومين في غرفتي بحي «بوشكين» الجامعي، لما أيقظتني الطرقات المتتالية، فتحت الباب وأنا أفرك عيني، فوجدته أمامي بقامته النحيفة، وبنصف ابتسامة ملجومة على الوجه الباكي.

قال: اعذرني على هذه الزيارة اللامنتظرة، لكن، ماذا أفعل؟ لم أجد أحداً لأتحدث إليه على غزارة ما لي من الأصدقاء.

قلت: تفضل بالدخول إذن.

قال: لا، بل أدعوك إلى مكان آخر، إذا لم تر مانعاً طبعاً؟

قلت: لا مانع عندي.

وفي لمح البصر، غسلت وجهي، وحملت ما خف من ثيابي، وانطلقت معه إلى حيث يحلو السهر، إلى أحد المطاعم المتاخمة.

ولأول مرة سمعته، وبعد أن استقر بنا المقام، يغني، وكان غناؤه شجياً، قادماً من فج سحيق.

حدثني عن طفولته، وعن هجرته إلى موسكو، عن أحلامه المستحيلة، ولم ينس في غمرة الحديث أن يعرج على أهم المحطات الوردية في حياته.

 

>>>

 

 

عندما عدت إلى تونس، ظللت بين الرسالة والأخرى أسأل عنه وأتسقط أخباره، حتى حجبته الأيام عني، ولم أعد أسمع عنه إلا القليل، القليل. تلك هي الحياة وتعقيداتها.. وعندما انهار الاتحاد السوفييتي سابقاً نسيته تماماً، نسيت الصديق الذي لم أكن أصدق أنني سأنساه يوماً ما، لكن ما زلزلني مؤخراً، وما دك طمأنينتي هو خبر انتحاره فجأة، نعم ألقى بنفسه من «البلكون» وغادر الحياة.

لماذا؟ أي حزن عظيم استبد به؟ لا أدري!. كل ما أدريه أنه كان صديقي ذات يوم، هناك، وكان حزيناً إلى أبعد حد، إلى حد الانتحار.


[email protected]للتواصل مع الكاتب يوسف رزوقة