رائحة الأهل

لم أعرفها، إحدى قريباتي حدّثتني عنها، وأخبرتني بأن والدي دعاها لعقيقتي، قالت إنها أخذتني في حجرها، ولهت معي طويلا، ولم أبك، عكس ما كنت أفعله كلما غادرت حضن أمي.

قريبتي التي جاءت تزورني في مراكش، أخبرتني بأن عمة والدي تعيش الآن في طنجة، ولا تجد من يخدمها أو يُطل عليها، قالت إنها قلقة بشأن العمّة، طنجة من المدن التي انهارت فيها الكثير من المباني القديمة، انقبض قلبي، وشعرت بأن مصير العجوز التي لم أكن أعلم حتى بوجودها يعنيني كثيرًا، أنا وحيدة مثلها، فقدت والدي مبكرًا، ولم أجد حولي الكثير من الأهل، أمي كبرت في ميتم، ووالدي كان وحيد جدي اللذين توفيا قبل أن أرى النور.

سألت عنها، واستطعت بعد جهد أن أعرف أين تقطن، ركبت القطار في إجازة الربيع، وانطلقت لأول مرة في حياتي إلى الشمال.

البيت كان فعلًا -كما قالت عنه قريبتي- عتيقًا، جدران متهالكة من الطوب المقوّى بطبقة أسمنت مشققة، طرقت الباب، وفتحت لي عجوز لم أستطع التعرف عليها، وكان ذلك متوقعًا، لأنني لا أذكر شيئًا عن عمّة والدي، قدمت لها نفسي، وابتسمت بطيبة، ودعتني للدخول، دلفنا في ممر ضيق جدًا، وخرجنا إلى فناء صغير ومشمس، تقشر في أحد أركانه عجوز أخرى حبات بطاطا، قدّمتني العجوز الأولى إليها، ووضعت المرأة السكين، وثبتت نظارتها الثقيلة على أنفها، ونهضت بصعوبة، وأخذتني في حضنها، ثم انخرطت في البكاء.

لا زلت كما تركتني، قالت لي، نفس الملامح الدقيقة، والحركات المندفعة، تظاهرت بأنني صدّقتها، وجلسنا نتحدّث عن تقلبات الزمن ومفاجآت الحياة، لم تتصور أن يبقى من عائلتنا المشتتة فرد يذكرها، ظنت أن الجميع نسيها، ودفنها قبل أن تموت، رويت لها ما كان من زيارة القريبة التي قلقت عليها، وسألت وهي تبتسم بحزن: لِمَ لم تأت للاطمئنان عليّ؟

جاءت العجوز الثانية بالشاي، وعرّفتني العمة بها، هنية، صديقة طفولتها وشريكتها في السكن، درستا معا في المرحلة الابتدائية، في الستينيات، وقعدت العمة مبكرًا في البيت، ثم تزوّجت، بينما واصلت هنية دراستها بنجاح، وكانت ضمن أول فوج من الفتيات اللاتي نلن البكالوريا بعد الاستقلال، عملت معلّمة، وتزوّجت ضابطًا في الجيش، لم يمانع في احتفاظها بوظيفتها، لم تنجب أطفالًا، ولكنها علّمت أجيالًا، تنقلت بعد وفاة زوجها في مدن الشمال، وانتهى بها المطاف في طنجة، حيثُ جمعها القدر بالعمة عزيزة، الاثنتان تُسرّيان عن بعضهما، وتعيشان بستر بفضل راتب هنية التقاعدي.

قعدت عندهما أسبوعًا مر كلمح البصر، تجوّلنا خلاله في أزقة المدينة القديمة، وطاردنا أشباح ماضيها الزاخر بالأحداث، وروت لنا هنية الكثير من الوقائع والقصص المنسيّة، ثقافتها وسعة اطلاعها أذهلاني، ونرفزة العمة عزيزة التي لم تكن تتحمل ثنائي المتواصل على موسوعية صديقتها، أثارت مرحي، كانتا تحبان بعضهما، وتعرفان أنه لا غنى لكل واحدة منهما عن الأخرى، ولكنهما لم تكونا تكفّان عن معاندة بعضهما.

 سألتني العمة بقلق إن كانت تبدو أصغر من صاحبتها، وطمأنتها، مظهرها لا يوحي أبدًا أنها تجاوزت السبعين، الاثنتان في الواقع طاعنتان في السن، ولكن قلبي لم يطاوعني على صدم العمة، تألق محياها التَعِب، وأشرقت عيناها، وأسرت إلي أن سنوات خدمة هنية في وزارة التعليم هي التي أودت بصحتها، المرأة خلقت لتدبير شؤون البيت وإنجاب الأطفال، وليس لمزاحمة الرجل في ميدان العمل، عليّ أن أتعظ، وأبحث لي عن زوج قبل فوات الأوان.

 بالمناسبة، ماذا أنتظر؟ لم أعد صغيرة، وهي عندما كانت في عمري، كان لديها ثلاثة صبية.

ابتسمت بحرج.

تعيش كل منا في زمن مختلف..

وجدت نفسي في نهاية الإجازة أبكي وأنا أعانقها، تعلّقت بها، وارتاحت إليَّ.

 كسبت عائلة، ولم تعد عمة والدي مهملة ومنسية،

ماذا أريد أكثر من ذلك..؟