رجل شريف

أوشكت الشمس على المغيب.. أوقف شريط الأغاني القديمة وشغّل المذياع.. لا شيء يستحق المتابعة.. أدار الزر، وحاول الاستمتاع بالهدوء الذي خيّم على السيارة.

قضى اليوم في اللهاث خلف مسؤولي الفنادق التي يتعامل معها.. غريب، كيف يتفقون جميعًا على التنصل من مقابلته حين يأتي لأخذ المال.. ويحاصرونه بالمكالمات والمسجات قبل أن يحين موعد تسليم البضاعة.. تجارة الكمأ مربحة، ولكنها مرهقة للغاية.. مسد عنقه ومد يده إلى حافظة نقوده، يتفقد رزم المال الثلاث التي تسلمها من زبائنه.. ثلاثون ألف درهم.. ستغطي تكاليف شراء وشحن البضاعة، وسيتبقى له منها ربح محترم.. اهتزت السيارة وهي تطأ طريقًا محفورًا، ووضع المحفظة بعجلة قربه وخفض السرعة.. الأسفلت متآكل، والشريط الممتد بين القرى والبلدات المحيطة بالمدينة ضيق ومليء بالحصى والحفر.. نقر بأصابعه بنفاد صبر على عجلة القيادة.. أمامه نصف ساعة على الأقل إن استمر على السير بهذه الوتيرة.. لن تغفر له جميلة تأخره.. وعدت أمها بأن تحضر في الوقت.. هزّ رأسه غير آسف في أعماقه على ما يحدث.. علاقته بحماته ليست طيبة، والعشاء الذي ورطته زوجته فيه لا يعني سوى وجبة ثقيلة - حماته لم تسمع من قبل بشيء يدعى بالأكل الصحي- مشحونة بالغمز واللمز والنقد الموارى تحت ستار تنكيت لا يستلطفه أحد غيرها.. تثاءب بإعياء، وحملق في الشخص الذي أخذ يلوح له من بعيد.. عجوز يحمل كرتونة مربوطة بإحكام، وسلة بلاستيك مغطاة بثوب داكن.. إلى أين يا حاج؟ أطل عليه الرجل من النافذة.. قريته غير بعيدة، وحمله يمنعه من التوجه إليها سيرًا على الأقدام.. أشار إليه هشام ليركب، وصعد البدوي الذي أصر على أن يعطيه شيئًا مما يحمل.. بضع برتقالات، وحزمة نعناع، ورغيف صغير.. رمى الثوب الذي أزاحه عن السلة على كتفه.. كان جلبابًا تفوح منه رائحة مشتريات الرجل.. تحدث الاثنان قليلاً، وقرر هشام أن يوصل العجوز إلى داره.. أدهشته سعة ما يعرف عن تجارة الكمأ..

أوقف السيارة حيثُ أشار العجوز، ونزل الرجل، وسحب خلفه طرف جلبابه الذي علق بمحفظة السائق.. استدار هشام بالسيارة، ولوّح بيده بعجلة للعجوز قبل أن ينطلق.. التفت الرجل إلى المحفظة التي سقطت قربه.. رفع يديه، وصاح في السائق الذي لم ينتبه له.. اختفت السيارة عند المنعطف.. لهث العجوز خلفها، ثم توقف بإعياء، وقلب المحفظة.. فتحها بحذر، وفغر فاه أمام رزم المال التي اصطفت داخلها.. تنهد ودسها بحرص في صدره، واتجه إلى بيته..

حملقت جميلة في هشام بذعر.. هل يمزح؟ ثلاثون ألف درهم؟ أين كان عقله؟!

لم يكن يرغب في إخبارها بالأمر.. أراد أن يعود أدراجه أول ما اكتشف أمر السرقة.. ولكنه فكر في أن العجوز قد ينكر كل شيء.. يحتاج لمن يرهبه.. ومن أفضل من عزام؟ نسيبه ضابط الشرطة الذي يرتجف لمرآه أعتى لصوص المدينة.. لا مناص له من إخبار جميلة.. عزام لن يسكت، وهو لا يحتاج لمزيد من المشاكل.

« لم يضربك أحد على يدك لتوصل كل من هبّ ودبّ إلى داره.. لعل هذا يلقنك درسًا… ».

تبعته زوجته بنقها، وخرج وهو يصك على أسنانه بقهر.. سيسترجع المال ولو اضطر إلى تفتيش بيت العجوز شبرًا شبرًا.. أهذا جزاء المعروف؟ يسرقه ويضحك عليه ببرتقالتين وورقتي نعناع ورغيف بائت؟ الخبيث!

عرج على عزام في داره.. وجده يتحدث في الهاتف مع أمه، وزوجته إلى جانبه.. سيتأخران على العشاء.. هشام تعرض للسرقة.. وقف يستمع لخيبته تتناقلها ألسن العائلة، والحنق يملؤه.. رن هاتفه، وتعالى صوت جميلة.. عليه أن يعود فورًا إلى المنزل.. نقوده بانتظاره.

جرى وعزام في إثره.. ولم يصدق عينيه عندما عتب الباب.. العجوز يجلس في صدر الصالة، ويداه تتشبثان بالمحفظة التي وضعها على ركبتيه.. «خذ يا بني.. معذرة على التأخير، ولكنني لم أجد بسهولة من يوصلني إلى المدينة».. «جريت خلفك، ولم تنتبه إليّ.. قلبت أوراقك لأجد العنوان.. عِد مالك لتتأكد منه»..

بقي متسمرًا في مكانه لا يعرف ما يفعل.. لم يصدق أن الدنيا ما زالت بخير.