طرق عنيف على الباب يشبه زائري الفجر في عهد الستينيات، أقعدني هذا الطرق من نومي وكاد قلبي يقف من شدة الفزع، خطوت إلى الباب وأنا أتمايل كعود قصب في يوم ريح، سألت: منْ بالباب، فأجابني وهو يلهث «عبد الله»، اعتقدت لأول وهلة بأن شيئًا ما يطارده، لدرجة خفت معها أن أفتح الباب، وسألته ثانية: منْ أنت؟، فأجاب بعصبية: «زفت» افتح، فسألته ماذا بك: قال: رمضان غدًا.. ففتحت له الباب وأنا في حالة من الغيظ، وقلت له: وماذا إذا كان رمضان غدًا؟ على عجل طلب مني اصطحابه في جولة للسوق لشراء احتياجات رمضان؟! فتعجبت لأمره، لكنني أمام إلحاحِه رضختُ واصطحبتُه إلى حيثُ أشار، أسيرُ متثاقلاً، بينما هو يسير في خِفة مُهْرٍ استفَزّته قوة الشباب، يلقي بالسلام على كل منْ نلقاه، في وُدٍّ ظاهر ويقول للغادي والآتي: رمضان كريم ـ الله أكرم!!
وصلنا إلى السوق، تبدّل الحال وتغير المقال، ورأيت من صاحبي وجهًا غير الوجه الذي خرجنا به من المنزل!
لقد اتسعتْ حدقتا عينِيه وهو ينظر إلى البضائع والأطعمة من خضر وفاكهة، ينظر إليها في نَهم منْ يخشى المجاعة، يطلب الصنف بعد الصنف، والوزن بعد الوزن، حتى إذا مررْنا على صاحب الحلوى، انفرج فمه، والبائع يدعوه في إغراءٍ ودلال ظاهريْن ـ اتفضل يا باشاـ وتقدم الباشا يسأل عن هذا وذاك، ويَزِن من هذه وتلك، أسألُه أن يرفق بنفسه فيجيبني ـرمضان غدًاـ دون أن يلتفت إليَّ، يلقي بما يشتري في كيس بعيدِ القاع!!
وما حدث مع الحلوى حدث أيضًا مع ركن المخللات والمقبّلات والشطة وأخواتها، كاد قلب صاحبي يقف من الإثارة، يسأل عن طعم هذا ولون هذا ورائحة ذاك في شغف غريب، يبتلع ريقه في صوت مسموع، وأخيرًا أوشك الكيس على الامتلاء، وأوشك ما في جيب صاحبي على النفاد، ورغم ذلك ظلّ يتلفّت يمينًا ويسارًا، مخافة أن ينسى شيئًا.
وأخيرًا همّ بالعودة، وأنا أتبعه في سخط خفيّ، أستحثّه على الإياب، وهو يلومني على الاستعجال، يخبرني بين وقت وحين أنّ رمضان غدًا. وفجأة توقف كما تتوقف سيارة مسرعة، وهو يضرب رأسه بيده صارخًا، كنتُ سأنسى العصير، وارتدّ قاصدًا ركن العصائر والمشروبات.
حتى وصلنا ركن العصائر وقد اصطفت في نظام بديع، من كل حجم ولون وجنس،
نظرت إلى صاحبي فهالني ما رأيتُ من حاله، لقد انتصبتْ أذناه واتسعت فتحتا أنفه مثل جحش يُعاني متاعب الجرِّ، وتوقف عن التنفس من فرْط التعب، في شفقة مصطنعة مني سألته: ما بك؟ أجاب: «رمضان غدًا»، وطلب من الأصفر والأحمر والوردي، حتى طفح الكيس، إن ما أوقفه ليس طفح الكيس بل نفاد ماله.
انتهت الرحلة وحمدت الله أنه لم تزُغ عينه على جيبي فيفرغه، حملت معه حمله الثقيل حتى بيته، وهناك تركته وذهبت لأكمل نومي الذي قطعه، وما هي إلا سويْعات قليلة، وطرق آخر على الباب وبنفس الطريقة وربما أعنف، نهضت من فراشي، والغيظ يقتلني، وسألت بعصبية مفرطة منْ بالباب، فقال: «عبد الله»، فصرخت في وجهه: «وماذا بعد؟!» وبصوت متهدج باكٍ، قال: «افتح، لأخبرك»، فتحت وأنا بيني وبين نفسي أريد أن أقتله، فرأيته كخارجٍ من مشاجرة عنيفة وآثارها واضحة على جسده، سألته عن الأمر، فقال: «زوجتي كلمة منها وكلمة مني تشاجرنا»، فقلت له على ماذا؟، قال لأنني نسيت أن أشتري اللحم، والدجاج، والسمك، و.. و.. ورمضان غدًا!!