مسرور بما سمعته عبر الإذاعة، يثير الخبر عندي راحة، نجح العلماء في مركز المراقبة التابع لوكالة ناسا، في حل مشكل الاتصال بالحاسوب الآلي المنظم لحركة مركبة الفضاء وأنظمتها، المستقرة الآن فوق المريخ، عطل جرى بعد الهبوط، استغرقوا أربعا وعشرين ساعة لإصلاحه، أوامر واتصالات يجريها الإنسان على بعد ملايين الأميال.
يقول المذيع إن المركبة ستتحرك بعد قليل.
الساعة الحادية عشرة هنا، ترى.. كم هناك؟ أهي نفس اللحظة في المريخ، أم لكل منهما حضورها؟ أتعاطف مع تلك المركبة كأنها من لحم ودم، بشر مثلي، أتخيلها في وحدتها هناك، أستعيد الصور، هذا السطح المائل إلى حُمرة، تلك الجلاميد من الصخور، متى تكونت؟ متى استقرت بهذا الشكل؟ هل كانت حمما مماثلة وتجمدت؟ هل سقطت من الفراغ السحيق؟ هذا وضعها الآن، إلى متى ستظل؟ متى يتبدل؟ إلامَ المصير؟
مريخ.. أخرج إلى الشرفة الصغيرة المتصلة بغرفتي مكتبي ونومي.
ها هو، لامع، مستدير، في حجم كرة التنس، ربما أكبر قليلا، لامع، مضيء مع أنه كوكب وليس بنجم، لكنه ضوء الشمس المنعكس منه، تماما كالقمر الصامت، البارد، الهامد، لكنه وسيط جيد للضوء الآتي من بُعد الشمس السحيق.
ها هو أمامي، في مواجهتي، تقريبا مسار الشمس والقمر نفسه، من الشرق إلى الغرب، بعد شهر سيختفي، سيظل عالقا في مساره هكذا، نظن ثباته، لكنه يبتعد، ينأى عن الأرض بسرعة مئات الكيلومترات في الثانية، أي فراغ؟ لو أن مخلوقا ما يتطلع الليلة إلى الأرض من هناك، كيف سيبدو؟ ما أعرفه أن كوكبنا سيظهر ضعف تلك الكرة المضيئة، وإذا أتيح له ما نظرت الليلة عبره، بمنظار مقرب فسيرى الكوكب الأزرق المغلف بغيوم بيضاء، بعد أن صورنا الأرض من بعيد، يبدو بلونه العميق وسحبه الأجمل والأشد صفاء، عندما دعاني صاحبي عالم الفلك أول الليل، حوالي العاشرة للتطلع من المنظار، رأيت لأول مرة اللون الأحمر مختلف الدرجات، وطاقية الجليد البيضاء تتوج الدائرة نقاط بيضاء متفرقة، رأيته في حجم رغيف بلدي مكتمل الاستدارة، ها هو أمامي، لو لديَّ منظار لدققت وفحصت، لكنني أكتفي بالتطلع مشدودا إليه، اليوم صباحا دنا إلى أقرب نقطة في مداره من الأرض، نقطة لا يبلغها إلا كل ستين ألف سنة مرة، أي أن كل ما أعرفه من معالم الآن لن يكون موجودا المرة القادمة، لا أدري أين ستستقر ذرّاتي وقتئذ؟ هل سيكون كوكبنا في المدار؟ لا أقدر إلا على التساؤل، غير أنني أمعن النظر محاولا استيعاب كافة ما تحمله إلى اللحظات.
منذ سنين تختفي النجوم عن سماء مدينتنا لشدة الأضواء المنبعثة منها، والتي تخفي النجوم والأجرام والنيازك والشهب؛ لذلك يبدو في حضوره قويا قريبا، أدقق ما دامت الفرصة النادرة قد أتيحت لي، صباح اليوم، تمام الثانية عشرة والدقيقة الواحدة والخمسين، بتوقيتنا، اقترب الجرمان الكبيران من بعضهما إلى أقصى درجة ممكنة، آخر مرة حدث خلالها ذلك القرب عام 57617 ق.م وصل المريخ إلى نقطة يبعد فيها 55.72 مليون كيلو متر، إنها المسافة التي كانت تفصل بينهما صباح اليوم الثانية عشرة والدقيقة الواحدة والخمسين ظهر الأربعاء، أردد التوقيت مرات مع تطلعي إلى أعلى، كانت لحظة سطوع للشمس في ديارنا، لا يمكن رؤية النجوم، طبقا لوضع الأرض وقتئذ، فإن أقرب نقطة على المريخ ستكون في النصف الجنوبي حيثُ المحيط الهادي، جزيرة تاهيتي والصحارى الأسترالية المقفرة، هناك المريخ، شديد الوضوح، ساطع، عندما يخلو الفضاء من عناصر التلوث، فإن الضوء المنعكس يبدو أحمر اللون.