عرفت فائدة عينيّ ذات صباح، حين اندلعت أنتِ من ركام المرئيات اليومي كأجمل ما تكون المفاجأة.
تكوينك العادي كان وعدا بكل ما هو غير معتاد:
من غير المعتاد أن أكون سعيدا هكذا فجأة. أن أقرأ في عينين عسليتين رسالة تفيض عذوبة، برقية في الواقع، كلمتين.. أنا.. هي..، أو: أنا.. أنت، أنا.. نحن.
وفي ذلك الصباح أعدت اكتشاف عدة بديهيات:
ليس بالضرورة أن أكون أنا وتكونين أنت فيكون حاصل جمعنا = يساوي نحن، لابد من «أنا» خاصة و«أنت» تخصها كي نساوي = نحن.
أنا وأنتِ وأنتِ وأنا، وعام مضى، واصطدم وهو يخرج بعام جديد دخل، وما زلت أقرأ في عينيك نشرة أخباري المدهشة.
عرفت فائدة عينيّ حين استدعاهما الشعر؛ لتشهدا على امرأة اسمها «أجمل ما حدث لي»، فشهدتا معا، وكل واحدة تقسم على صدق الأخرى مستندة على ما رأت هي.
أقسم بالله العظيم، لم أرَ حسنا لم يطرف عينيّ إلّاكِ. لم أفتح صدري وأنا آمنْ، إلا حين تلقيتك في أحضاني. لم أنس الحذر الواجب من شوك الوردة، لم أعبر مدنا أنسى فيها كل تعاليم عبور المارة بين السيارات سوى أرض لقانا، لم أعرف قدر جلال المنعم وهّاب الإبصار، إلا حين رأيتك.
حين رأيتك أول مرة. كان العالم خارطة من مدن مزدحمة، تتنفس أحلاما.. مختنقة. كان الأمن العام يحاول أن يبدو أمنا، والقلب يحاول أن يصلح قلبا، حين رأيتك كان النور غلالة، من ضوء مغلول في غاز متربْ، حين رأيتك، حين تحرك أفق الملكوت الأزرق والبحر، اقتحم المدن المشلولة، وتنفس أكسوجين الله ورفرف حرا كشعور محلولة، حين رأيتك لم أعد التلميذ الخائب والشيخ السكّير التائب، حين مزحتُ وحين سبحت لأول مرة، حين اجتحت العالم سربَ أوز طيار أبيض.
حين انفتح الحلم الأخضر واحتضن الصحراء المجرية والمدن المذهولة.
قد يتبارى شعراء وعشاق في وصف المحبوبة.
لكن حسبي أن أصف العينين «هاتان هما لي.. وحدي»
أحلى ما في هاتين الشفتين
أنهما في وضع مضموم.. من أجلي
أما أحلى ما في هاتين الكفين
ما أعطيتاه لي
لا بل أحلى ما آخذه ما أعطيه
انضم عام، وردة أخرى في صحبتنا معا. تزدادين صبا في قلبي، عطرك يتعتق.. وقد مرت من السنوات عشرون، وما زالت فرحة حياتي حين رأيتك أول مرة.
وأسأل الله أن أغمض عينيّ فلا أرى بعدك شيئا.
في آخر العمر حين تتأهب الروح لقطع الصلة بما هو أرضي، تكونين همزة الوصل بين الأرض والسماء، وأن تكون يدك هي آخر ما ألمسه، كأنك تناولينني للعالم البعيد.
وأشهد الله أن الفتاة ذات الشعر الرمادي التي ستفعل كل هذا هي في قلبي نفس الصبية، التي ضبطت عينيها في لحظة اعتراف لي أول مرة.
وحين رأيتك أول مرة، كنت أكثر شيخوخة من الآن بكثير، لكن مساحيق التخفي والكرامة كانت تنطق بنضارة أعوام ثلاثين، والآن حين أراك، أراك لأول مرة، وحين أكتبك ترقص في قلبي فرحتنا الأولى، وكأنها ترقص لأول مرة.
فهل كل هذه مقدمات لا لزوم لها؛ لكي أقول لك: كل عام وفرحة لقائنا بخير؟
أم كل هذا الكلام مجرد حجة أتعلل بها؛ لكي أتوجه إليكِ بالكلام؟ بالكلام الذي هو ليس ككل كلام، ليس كلام كل يوم، بل هو الكلام الذي أقوله وأنا صامت طوال الوقت كل يوم.
الآن أنت أكثر نضارة من فتاة ذات الصباح الخريفي البعيد، الفتاة ذات الضفيرة، الضفيرة والنظارة والبنطلون الجينز، فكل صباح وفرحة لقائنا ما زالت بخير.
وأتمنى أن يكون لقلبك منها ولو رعشة واحدة.