صاروخ على رؤوسنا ـ 2 ـ


يكفي أن يتلفت الواحد منا ليرى شاعرًا في آخر انسجام مع صحفي من جريدة «الثورة» أو «القادسية» أو «الجمهورية» أو «العراق»، أو شاعرة تدلي بحديث خاطف للتليفزيون، أو كاتبًا قصصيًا يكتب عنوانه لصديق تعرّف عليه اللحظة، أو صحفية تستجوب ناقدًا تبين فيما بعد أنه لا يمت إلى عالم الإبداع بصلة.

 

أضواء ودخان

ونحن نغالب النوم وأنفسنا من أجل أن نعيش الوقت كله، أن نستنزفه في الثرثرة حتى الصباح.

1، 2، 3.. وابتدأ التركيز من جهتي بأن التزمتُ الصمت تمامًا، وأنا أجلس كالتمثال قبالة الصديق علي المندلاوي «رسام كاريكاتوري، لا يُشق له غبار، لقد أصر وأنا أزور ورشته لأول مرة على رسمي» كان بلاسم ورمزية وآخرون على قيد طاولة منا يدردشون ويعيثون في المكان لغطًا وضجيجًا وتنكيتًا لذيذًا، وكنت أراقبهم وعلى رأسي الطير كما يقال، أما علي فقد كان يثقبني بنظراته البومية الثابتة وهو يعالج وجهي بقلم الرصاص، ويحوّله في لحظات وجيزة إلى صورة بشعة كأروع ما يكون، نعم، رسمني في شكل ذئب، واستطاع أن يضفي على وجهي ما به أكون ذئبًا شبيهًا بذاك الذي في قصيدتي «الذئب في العبارة» وقد أذهلني صديقي هذا بمدى عبقريته في تهويل ما يبدو، أما الكاريكاتور الذي أنجزه من وحي سيمائي، فقد تم عرضه في قاعة بغداد للفنون، ولاقى هوى لدى كل من شاهده من الزوار ومن أدباء المربد خصوصًا.

 

مقالب الأدباء

وأنا أرتمي على السرير رن الهاتف:

> ألو الأستاذ فلان الفلاني «صوت يرطن بلهجة عربية ذات لكنة لا يلهج بها إلا المستشرقون عادة».

- نعم، أنا هو بالتّاء المربوطة في لقبي.

> أنا مستشرق بولوني جئت إلى مهرجان المربد الشعري، وقد قرأت لك وعنك، ويهمني أن أتعرف عليك لأنك شاعر كبير.

- أنا بدوري أرحب بك، لكن كيف عرفتني؟

أهداني مؤلفاتك أحد الأصدقاء في السفارة التونسية، أنا أكلمك الآن من فندق «الشيراتون» تعرفه بالتأكيد، معي زوجتي وابنتي، متى نلتقي؟

- كما تريد، الآن مثلًا.

> قبل أن أنسى، غدًا مساء سأسافر إلى البصرة، لي موعد هناك مع بعض الباحثين، وأكون ممنونًا جدًا لو تفضلت بمرافقة عائلتي الصغيرة «زوجتي وابنتي» لتعرفهما على مدينة بغداد الجميلة.

- نحن في الخدمة يا صديقي.

> شكرًا جزيلًا، لكن قل لي وقبل أن أنسى أيضًا، هل في تونس شعراء كبار مثلك؟

- بالتأكيد.

> من مثلًا؟

- محمد الغزي، المنصف الوهايبي، جعفر ماجد، آدم فتحي، نور الدين صمود، وغيرهم.

> جميل، جميل جدًا، والآن لنعد إلى موعدنا، سأكون عندك في لحظات انتظرني في مدخل «المنصور».

أحسست بشيء من الأريحية ومن الغرور، قلت هناك من يقرأنا ويتابعنا من وراء البحار.

وبلا تردد، اندفعت خارجًا باتجاه المصعد لأسبقه إلى موعدنا عند مدخل الفندق، مرت دقائق تلتها دقائق، وصاحبنا لم يأت، ساعة، ساعتان، ثلاث، وصاحبنا فعلها ولم يأت، أكيد أن له عذرًا، وكنت أرجو أن يكون المانع خيرًا.

عندما عدت إلى غرفتي رن الهاتف من جديد لأجده على الخط ثانية:

> عذرًا يا صديقي لم أتمكن من المجيء، في آخر لحظة جاءنا زائر ثقيل، لم يترك لنا وقتًا للهروب، على أية حال، غدًا نلتقي، غدًا صباحًا في العاشرة مثلًا هنا عندي.

طيب «قلت له» إن كان ذلك كذلك، فلك ذلك، أليس كذلك؟

> وهو كذلك «قالها ضاحكًا وأغلق الهاتف».

بعد المكالمة مباشرة، وكانت الساعة تشير إلى منتصف الليل، عنّ لي أن أشم شيئًا من الهواء، فتدحرجت إلى حيث المقهى لأجد «الجماعة»: المنصف الوهايبي، حسونة المصباحي، محمد العوني، خيرة الشيباني، محمد الغزي، علي دب، وآخرين بصدد السهر.

سألتني خيرة:

- أين اختفيت؟

قلت لها:

- كنت في اتصال مع مستشرق بولوني، وهو معجب بشعري وسيترجمه إلى البولونية، وأحسست في كلام الجماعة، وحتى في صمتهم، مؤامرة ما، وازداد اقتناعي عندما اهتموا بي على نحو فضولي، حتى انفجروا في النهاية ضاحكين، ولم يكن المستشرق الذي اتصل بي «وكأنه مستشرق حقيقي لكنة وأداء صوتيًا»، سوى صديقنا الشاعر التونسي المنصف الوهايبي.