مؤطرة يسندها حامل مائل، أتطلع إليَّ، هذا أنا، لا تزال الملامح الأساسية لم تتبدل، أحاول أن أتذكر اللحظة التي التقطت فيها، أنظر إلى أعلى، أتقن المكان، أتردد عليه بانتظام، مسجد ومدرسة السلطان حسن، أجلس إلى عتبة المنبر، مكاني المفضل، لتأمل الإيوان الشرقي من داخله، وصحن المسجد من جهة طلوع الشمس قبل بلوغها منتصف السماء، في مواجهتي الإيوان الغربي، أصغر، أقل مساحة، يخلو تقريبًا من الزخارف التي تعمر الشرقي، باب المنبر خلفي، زخارف من نحاس تغطي مصراعي الخشب، الجدار الغربي لا أراه في الصورة، لكنني أطالعه من خلال نظرتي تلك، أفكر في تلك المساحة الهائلة الخالية تمامًا من أي خط أو إشارة، يبرز فراغها تلك الدائرة في الثلث العلوي من الزخارف الجصية الدقيقة، توجد حالة من التضاد، تبرز الفضاء، ويقويها الفراغ المعلقة داخله، الدائرة دائمًا في اتجاه الشرق والغرب، بين يديَّ مجلة أسبوعية، ما يبدو كلمة من عنوان، أما تاريخ الإصدار تحته فلا يمكن قراءته، وضعته مرة تحت عدسة مكبرة، لكن لم يلُح لي شيء، كان ممكنًا أن أُخمن اليوم بالتقريب، كذلك السنة، في مواجهتي يقف محمد عبد الرحمن مستغرقًا تمامًا، يقوم بتركيب العدسات الدقيقة والفيلم مرتفع الحساسية، يسند الآلة بذراعه الصناعية، يقوم بكل شيء بيد واحدة، حساس جدًّا إذا عرضت عليه أي مساعدة، يستنفر الضابط القديم داخله، تبدو لهجته عسكرية باترة لا تحتمل التأويل، سألت عن مصير أفلامه في قسم التصوير، لكن لم يدلني أحد.
لا أنظر إلى الصورة إلا وأراه، خاصة بعد رحيله المباغت، غير أنني اليوم أُطيل التحديق، مختلف تطلعي هذه المرة، كأني أراها بعينيه هو، من اللامكان، من اللاهناك، ليس بصره هو الذي أبصر به، نظر أي آخر يمكنه التطلع إليَّ بعد انتفاء إمكانية سعيي في هذه الحياة الدنيا، بعد أن يتبقى مني بضع صور أحدق عبر الصمت إلى منْ يرقبني، هذا إذا بقي اهتمام لمن تتاح له فرصة النظر إلى تلك الصورة المنشورة في أعداد قديمة من بعض الصحف والمجلات، المحفوظ منها نسخة في أرشيف الجريدة، لم أسأل عنها منذ سنوات، ربما تكون اختفت مع صور أخرى عديدة بيعت إلى صحف عربية، ثمة مسافة غير مرئية بيني وبيني، من خلالها أنظر إلى الصورة وما من صلة تربطني بي، في مواجهتي أنا آخر، أستعيد لحظة وعرة، عندما كنت أعبر ميدان باب اللوق سنة ثمانية وسبعين، فجأة توقفت، انغمست في حال كان مفتتحًا ومدخلاً إلى ظروف صعبة وليالٍ تأهبت فيها للخروج الكلي، رأيت الترام والمباني والمارة بعينيْ منْ سيجيئون بعدي، من سيسعون في زمن يخلو مني، أكون فيه مجرد ذكرى عند نفر قليل، وقـد لا أكـون عند أي أحد بالمرة، في تلك اللحظة البعيدة توقفت مداهمًا بشدة الوعي بانتفاء وجودي، إنني لا أمتُّ إليَّ، بصري لغيري، أظن أن تلك اللحظة كانت بداية احتضاري الطويل المستمر حتى الآن، يعنف أحيانًا ويخبو أخرى لكنه مستمر، باقٍ، ماذا يكون إذن هذا الحال الذي فصل بيني وبين صورتي تلك؟ بيني، وبيني؟
للتفاعل مع الكاتب يمكنكم مراسلته على العنوان التالي [email protected]