ظلمة التواضع وأنوار السماء


صحبت أسرتي الصغيرة وذهبنا لقضاء بضعة أيام على ضفاف البحر الأحمر في العين السخنة بعيدًا عن زحمة القاهرة، وفي الليل خرجت لأمشى قليلاً، ونظرت إلى صفحة السماء السوداء الصافية، ومن بعيد تراءت لعيني آلاف النجوم المتلألئة في عنان السماء.

ساءلت نفسي، لو لم تكن صفحة السماء داكنة السواد مظلمة أكان ممكنًا لنا معشر البشر القاطنين على كوكب الأرض أن نرى هذا المنظر الخلاب للنجوم في سماء الكون؟ هل كان نورها يصل إلى عيوننا المجردة ؟


نميل دائمًا إلى الاعتقاد بأن اللون الأسود، أو الظلمة دليل شر، أو حزن، أو حداد، أو ربما لا نعطيهما من التقدير ما نعطيه للون الأبيض، أو الألوان الزاهية الفاتحة، فهي المحظوظة بنظرتنا المتفائلة الفرحة بها، أو ربما لا ننظر للأسود باعتباره لونًا أصلاً، نقول أسود، أو ألوان، نقول «فيلم أبيض وأسود أو ملون»، وكأن الأسود ليس لونًا أساسًا، علميًا يعتبر اللون الأسود هو غياب الضوء، ويمكن أن نطلق عليه أنه غير المرئي.

إذا ذهبت يومًا إلى السينما، فتذكر أن اللون الأسود الذي يميز صالة السينما، والظلمة الحالكة هي وحدها التي تعينك على رؤية الشاشة، ومتابعة الأحداث بمنتهى الوضوح.

وكما خلق الله سبحانه الكون خلق النفس البشرية، فكما تظهر النجوم المتلألئة في عنان السماء في خلفية حالكة الظلام، يحتوي الوجدان على خلفية سوداء تظهر الأنوار القدسية التي أودعها ربي في كل منّا، ولا أقصد بالسواد حزنًا، ولا شرًا، بل هو الأرض السوداء الخصبة، التي بها ينمو كل خير، هي الجذور الراسخة التي تعطي الأشجار الباسقة ما تحتاج إليه من غذاء، كما أنها تحميها من أن تقتلعها الرياح العاتية التي تهب بين الحين والحين، بدون الجذور لا تستطيع الشجرة أن تعلو وترتفع، هذه الخلفية هي التواضع، والبساطة.

التواضع صفة الحكماء، بها يقر الإنسان، أي إنسان، أنه لا يعرف كل شيء، وأنه لا يستطيع وحده أن يكون كل شيء لكل إنسان.

والتواضع لا يعني أن تظن أنك بلا قيمة، أو أنك مخلوق معيب، أو بلا ذكاء، أو مواهب، بل على العكس، فبالتواضع يدرك المرء أنه قد خلق بمواصفات، وقدرات تخصه، وتميزه، يحتاج إليها العالم كله، ومع هذا يدرك أيضا أنه واحد من مئات الملايين من البشر الذين خلقهم الله سبحانه وتعالى، وبكل منهم ميزته، وموهبته التي يحتاج إليها هو ليعيش حياة سعيدة.

التواضع أن تدرك أن لك دورك الصغير على مسرح كبير وهائل، دورك الذي تؤديه وتمضي.

التواضع هو الذي يعلمنا أننا لا نملك كل الإجابات، ولا حتى كل الأسئلة، التواضع هو الذي يسمح لنا أن نسأل بلا خجل، وننفتح على ما في هذه الدنيا من خيرات، ونتعلم من الآخرين، وألا ننظر للناس على أنهم أحد اثنين: أبيض أو أسود، وإنما نقدر كل إنسان في هذه الحياة.

عكس التواضع هو الغرور، والغرور هو أن تظن أنك أذكى، وأعلم، وأفضل من الآخرين، الغرور حائط يفصل بينك وبين الناس، فهو يصور لك أنك في غير حاجة لأحد، وأن بإمكانك أن تعيش وحدك.

التواضع يعمل في حياتنا بطريقة تشبه عمل النحل الذي يصب العسل في البرواز، فبلا تواضع لن تذوق طعم السعادة.