عدن.. الحكاية ـ 2 ـ

بعد أيام أصبح الصبية أصدقاء لي، أعطيهم الحلوى التي يشتريها لي زوجي من السوق الحُرّة، فأنا في بداية الحمل وأتوهم الوحام، فأشتهي أشياء كثيرة، ذات يوم اشتهيت تذوق لحم «دجاجة عربي» (بلدي)، وكان مطلبي هذا محيرًا وصعبًا، جعل زوجي يتعب قبل أن يحصل عليه، وحين جاءني بدجاجة مرقّطة رفضت أن يذبحها، تركتها في المطبخ «تقوّق» وتملأ الجو بريشها كلما تحرّكت، في النهاية ذبحها زوجي، وطهوناها، لكنها لم تنضج، لأنها كانت دجاجة هرمة!

يمد الأطفال أياديهم من نافذة المطبخ إلى الحلوى الشهية، أصبحوا يبادلونني الكلام والضحك والمودّة، من النافذة أيضًا تدخل الغربان الكبيرة، تلك الطيور التي التقيتها للمرة الأولى في عدن، ولا طائر غيرها هناك، والرواية تقول إنها سبب اختفاء العصافير من فضاء المدينة، لأنها افترستها، كانت الغربان تدخل إلى مطبخي تشرب الماء من الحنفية، وتأكل الطماطم، وتتأملني مثلما أتأملها، فهي لا تخشاني، توطّّّدت بيننا العلاقة، فأصبحت تلتقط من يدي حبّة الطماطم أو قطعة الجبن، ذات مساء كان أحد الغربان واقفًا وسط الشرفة أمام قِطٍّ لي، وكأنهما يتحاوران، القط يموء، والغراب يواصل صمته، دون أن يُضرّ أحدهما بالآخر أو يمسّه بسوء.

التفاصيل كثيرة بعدن، التي كانت حينها تابعة للمعسكر الشرقي، وهي عاصمة اليمن الجنوبي، بينما صنعاء عاصمة اليمن الشمالي. الفتيات العدنيات جميلات، سمرتهن مشرّبة بحمرة، وعلى خدودهن الفل يفوح في الأماسي الرائقة، عندما يجلسن في شرفات المنازل، يشربن القهوة بالهيل والشاي الأخضر بالنعناع، ويتسلين بتدخين «الشيشة» أو «الأرجيلة»، ينظمن عقود الفل ويدردشن، كما أن للرجال مجالسهم التي يحضر فيها «القات»، ومن غيره تكون خاوية مملّة.

والقات عُشبة يضعها اليمنيون في أفواههم، يمضغونها ويخزنونها مثل السواك، ويقال إنها منشّطة، تؤثر على العقل، فتجعله أكثر يقظة وتحفزه للعمل والتفكير.. على كلٍ أنا لم أجرّبها.

يمر المساء، ويجيء الليل، فتتحرك المدينة مع اختفاء الحرّ وليونة الجو، ويجلس الشباب الذكور في حلقات صغيرة، يحتسون المشروبات المثلّجة، ويلعبون الورق، ويتسامرون، وكنت أمرّ أحيانًا بجوارهم، أنا وزوجي، فيحيوننا بتحية مسائية رائعة. كنت أول الأمر أخشى أن يتلفّظ بعضهم بما يخجل، أو يعترض طريقنا، مثلما يفعل السكارى في أماكن أخرى، لكن بعد أن ألفنا رؤيتهم، وأصبحنا نحييهم ونمر بجانبهم، دون أن يثير فينا ذلك أي شعور بالخوف أو بالاستغراب، كان زوجي يرافقني أحيانًا إلى مقهى «الروك» الذي يطل على المحيط مباشرة، ومن ورائه تتراءى لي قرطاج، في كامل زينتها، تغازلني وتُدنيني منها، أو نذهب إلى السينما.

 وعلى ذكر السينما، أذكر طرفة اقترنت بذهابنا إلى إحدى قاعات العرض، مفادها أننا دخلنا القاعة وجلسنا، وشرع في بث الفيلم، ومع ذلك كنت أهتم بالسقف الذي علقت بين نجومه الخلابة عيني، وبعد أن انتهى الفيلم سألني زوجي لماذا كنت أنظر إلى فوق طول الوقت، فأجبته أن سقف القاعة أعجبني، فهو يشبه سماء حقيقية، ضحك زوجي حتى كاد يقع أرضًا، قائلاً: إنها السماء، ما كنت ترينه كان سماء فعلية، هنا القاعات مكشوفة بسبب الحرّ.. وليس لي مفر من الضحك معه، لكن هذه المرّة ضحكت على نفسي.

طويلة حكايتي مع عدن الجميلة، واقتفاء أثر «رامبو» فيها جعلني أبحث عن «نشوان» المكان الأخضر الذي يجتمع فيه الماء بالشجر بالحب بالفرح.. لا أقول وداعًا عدن، فأنت دائمًا معي مهما طال السفر.