عذبة أنتِ أيتها الدنيا..!

لا أظن أن الحياة المعاصرة تتحمل مزيدًا من الحزن، وبث اليأس والقنوط، أو زراعة الإحباط والملل؛ لأن كل فرد فيه من المرارة، ما يجعله يطفح من الغزارة!

لقد ملأنا الأرض شتمًا ولعنًا للظلام، ولم يكن بيننا رجل رشيد، يخبرنا أن إشعال شمعة خير من لعن سلسفيل الظلام...!

لقد كنا نسمع المطرب طلال مداح -عليه سحائب الرحمة- يصرخ مرددًا: «عطني في ليل اليأس شمعة»، لكن ضجيج الطفرة، وصخب الثمانينيات لم يجعل للأذن وقتًا لسماع الكلمات والآهات والصرخات...!

يجب أن نملأ الأرض حبورًا وسعادة وأملاً وتفاؤلاً، طالما أن الوقت سيمر بقطع النظر عن فرحنا أو ترحنا، سيمر وبراءة الزمان في عينيه سارقًا البصر عن أوقات السعادة وأزمان التعاسة...!

لقد تعهد صاحب السطور نفسه بألا يسمع لكتائب الأدباء والمثقفين المملوءة حزنًا وكمدًا وهمًا وغمًا؛ حتى لا يفسدوا عليه بهجة الحياة وزينة الدنيا؛ لذا عقد صاحب القلم معاهدة صداقة يومية مع الشاعر التونسي «أبو القاسم الشابي»، ذلكم المتفائل رغم الداء والأعداء، صداقة توجب على الطرف الأول، وهو صاحب السطور، سماع «أنشودة الأمل» التي كتبها الشابي وغناها المطرب المتألق محمد عبده –قمصه الله ثوب العافية- ويلتزم الطرف الأول بأن يحفظها ويرددها كل صباح، علَّها تبعث الأمل، وتحيي النفوس، وتستدعي السعادة. تأملوا وأنا معكم ماذا يقول الشابي:

عذبةٌ أنتِ، كالطفولة، كالأحلام، كاللحن، كالصباح الجديد

كالسماءِ الضحوكِ، كالليلةِ القمراءِ، كالوردِ، كابتسام الوليدِ

أنتِ! ما أنتِ؟ أنتِ تحيين في فؤادي، ما قد مات من أمسي السعيد الفقيد

وتبثين «رقة الشوقِ»، والأحلام والشدو والهوى في نشيدي

يا لها من وداعةٍ، وجمالٍ، وشبابٍ منعّم أملودي

أنتِ روحُ الربيعِ تختال في الدنيا فتهزُّ رائعات الورودِ!!

هل تأملتم مع هذه الكلمات العذبة عذوبة الصباح، والمنسابة كأنها رشفات ماء في فم إنسان متعطش؟!

هل تأملتم معي كيف يتراقص الشاعر مع مفردات تدل على الانطلاق كالصباح الجديد، والربيع والزهور، والأحلام والشدو، والجمال والنعيم...؟!

كل هذه المفردات عندما يتعاطاها المرء في كل صباح، وكأنها قرص أسبرين لفظي تمنحه طاقة لا حدود لها؛ لكي يواصل مسيرته في شارع السعادة، المتفرع من طريق الأمل، والمؤدي إلى مدينة الأفراح، بعد أن ربط حزام الطموح؛ لكي ينتقل إلى مدينة الغد المشرق..!

آه..! ما أجمل الحياة عند من يفهمون مساراتها وممراتها، ومرتفعاتها ومنحدراتها، وجمالياتها وفتياتها وتموجاتها، وارتجافها ومعطياتها ومؤاخذاتها..!

وسأترككم تتأملون ما قاله الشابي في إحدى روائعه:

 

سَأعيشُ رَغْمَ الدَّاءِ والأَعداءِ

                  كالنَّسْر فوقَ القِمَّةِ الشمَّاءِ

أرْنُو إلى الشَّمْسِ المُضِيئةِ هازِئًا

            بالسُّحْبِ والأَمطارِ والأَنواءِ

لا أرْمقُ الظِّلَّ الكئيبَ ولا أرَى

                 مَا في قَرارِ الهُوَّةِ السَّوداءِ

وأَسيرُ في دُنيا المَشَاعرِ حالِمًا

            غَرِدًا وتلكَ سَعادةُ الشعَراءِ

أُصْغي لمُوسيقى الحَياةِ وَوَحْيِها

                 وأذيبُ روحَ الكَوْنِ في إنْشَائي