في مطار المدينة المطلة على البحر تنتظرنا منسقة المؤتمر، أبدت ترحيبًا، ابتسامتها الفسيحة أسنانها المنتظمة، رحابة ملامحها جعلتني أفيض بألفة ومودة، ما أذكره منها تلك الابتسامة، واستدارتها السريعة، الرشيقة، تقدمتنا إلى مكان انتظار السيارة، استقر زميلي في المقعد الخلفي، لم يستجب لدعوتي كي يجلس إلى جوارها، علل ذلك بأنه لا يحب حزام الأمان!
عندما قطعت العربة الطرق المؤدية إلى خارج منطقة المطار، قالت إنها تأسف، ستخبرنا بأمر لم تشأ له أن يقع، تحفزت لسماع مكروه، رغم أن ابتسامتها الفسيحة، الودودة مثلت في لفظها، في كل ما يصدر عنها من نطق، قالت إننا سنقضي الليلة في مدينة «ست» القريبة من مدينة «أجد»، الفندق الملائم في «أجد» مشغول حتى مساء اليوم التالي، غدًا في الحادية عشرة ستأتي لتصحبنا إلى مقر إقامتنا طوال مدة المؤتمر.
سألت عن المسافة بين المدينتين، قالوا حوالي سبعة كيلو مترات، لم تكن بالمسافة الطويلة، قال صاحبي: إننا سنرى مدينة أخرى، قلت إن اسمها مصري قديم، قالت إن ست أصل كلمة شيطان في اللغة اللاتينية، سألت إن كانت تعرف اللغة المصرية العتيقة، قالت إنهم في فرنسا يدرسون مبادئها في المرحلة الثانوية، التفت إلى الخلف، تبادلت المعنى مع صاحبي بالنظر، أذكر تلك اللخبطة بكل محتواها، قلت له وجاوبني بالصمت: في مصر لا نعرف شيئا عن لغة الأجداد، لا يتقنها إلا المتخصصون.
في الليل يصعب تبين الملامح مهما بلغت درجة الإضاءة، لمحت قناة، المدينة تمتد بحذاء ضفتيها، مراكب صغيرة ترسو، استدعيت خور دبي، المراكب عتيقة الطراز الراسية، صناديق البضاعة فوق الرصيف، صناديق مختلفة الأحجام، البحارة الهنود بأجسادهم النحيلة، المراكب في دبي متوسطة الأحجام، خشبية، تدفعها آلات، المراكب الشبيهة التي تأملتها في المرسى المطل على شط العرب في البصرة تمضي مبحرة بقوة الريح، بالأشرعة، تعبر بحر العرب والمحيط الهندي بالوسائل الملاحية نفسها التي عرفها السندباد في رحلاته السبع، كان نزولي البصرة سنة أربعة وسبعين، عجبت لاستمرار المراكب القديمة، انتظام الخطوط القديمة بين البصرة، وعمان، وموانئ الإمارات، والبحرين، بلوغها الهند وعودتها بانتظام. لا أستدعي قناة مدينة ست الفرنسية، والمراكب الراسية، إلا وتبعها سفن شط العرب، وخور دبي، وساحل عمان، ربما لتشابه القناة مع الخور، وربما لأحجام المراكب، تماثلها، لا أتذكر الموانئ الكبرى التي بلغتها، أو وصلت إليها على ظهور العابرات الضخمة متعددة الطوابق.
الشيء يستدعي مثيله، في الملامح، في الحجم، في المعنى، في اللمحة المستكينة، الخفية، لكن هذا الفندق لا يستدعي مثيله، لا في المدخل، ولا في المبنى، ولا حتى الغرفة، باب مستطيل، قديم، لا يكشف الزجاج شيئا خلفه، بعد حوالي دقيقتين سمعنا صوتا بالفرنسية، عجوز متعب، بعد حوالي ثلاث دقائق دار مفتاح في الباب، انفرج المصراعان، في المواجهة صالة ممتدة، كل ما يقع عليه البصر عتيق، اجتياز العتبة يؤدي إلى زمن مغاير، لا يفصل بين موضعين، إنما وقتان مغايران، ورق الحائط بتكويناته الزخرفية، بعض الوحدات بارزة، المصابيح خافتة، تتدلى من سقف مرتفع لم أرَ زخارفه إلا اليوم التالي، تبدو السيدة العجوز النحيلة جزءًا من المكان المحتفظ بزمن خاص مغاير، بحيث خيِّل إليَّ أنها لو عبرت إلى الخارج فلن تدخل مجال الرؤية لأي عابر، أو ثابت. لا يمكن النظر إليها إلا عبر هذا الفراغ.
مضينا إلى المكتب المغطى بطبقة من القماش الأخضر، يشبه ما يكسو مناضد البلياردو، قدمت إلينا أوراقا دوَّنا فيها بعض المعلومات المعتادة، لم تطلب جوازات السفر، تثق بمرافقتنا، سلمت كلا منا مفتاحين، الأول صغير تتدلى منه قطعة نحاسية صغيرة عليها رقم الغرفة، والثاني طويل غليظ، ذو رأس على هيئة قريبة من القلب، قالت إنه خاص بالباب الرئيس، لو خرج أي منا لسبب ما أثناء الليل فيجب أن يغلقه، قالت إن الإفطار من السابعة والنصف حتى التاسعة، تمنت لنا ليلة سعيدة، ونوما جيدًا، سألت مرافقتنا عما إذا كنا نحتاج إلى شيء ما، شكرناها، كان الوقت متأخرًا، وتوقي إلى النوم يتزايد، لم أقدم على عادة أقوم بها كلما نزلت مدينة بعيدة لأول مرة، أن أرتب حاجاتي في المكان الذي سأمضي فيه ليلتي الأولى، ثم أخرج لأتعرف على الطرقات المحيطة، أحدد موقع المبنى بعلامة معينة، خاصة إذا اضطررت لدخول طريق جانبي، أتعرف على الواجهات، أبحث عن مقهى، أو مكان يقدم المشروبات آوي إليه، في كل مكان أحل به أنشئ عادات معينة مهما قصر الوقت.