دعني أخمن أول شيء ستفعله عندما تذهب لزيارة مدينة جديدة عليك، ستأخذ في تأمل كل شيء حولك: معالم المكان، وجوه البشر، الأشجار، المتاجر، طرز الأبنية، اللافتات..إلخ.
دعني أيضًا أسألك إن كنت تحمل فانوسًا بيدك أم فانوسًا على رأسك؟ في هذه الحالة ربما تتحول أنت شخصيًا إلى معلم سياحي من نوع خاص فيلتفت الجميع إليك أنت بالذات.
بالنسبة لي، لم أستطع تأمل المكان، ولا أي شيء منذ ترجلنا من السيارة اللادا العتيقة التي قادتنا إلى ذلك المكان، حيث المطعم الذي ينتظرنا فيه زميلنا وزوجته.
«أمي.. جميع المارة ينظرون إليك»!!
قالها ابني الصغير مندهشا، وشعرت حينها بذلك الفانوس الذي كنت أحدثك عنه، فانوس ليس بيدي، بل على رأسي، صحيح أني أعتبر حجابي تاجًا على هامتي، لكنى وجدت الحرج يملؤني، ويتسرب الاحمرار إلى وجنتيِ، ووجدتني لا أنظر إلا أمامي فقط، وأنا أشعر بأني محط للأنظار، متجهة إلى حيث يشير لي زوجي؛ حتى وصلنا إلى باب المطعم الإيطالي الشهير بوسط مدينة كييف.
كان المطعم ممتلئا تماما، فالسابعة مساء هو موعد العشاء غالبًا عندهم، توجهنا إلى الدور الثاني بالمطعم، صعدنا السلالم الخشبية التي تميد محدثة أزيزًا مألوفًا، كان هناك اهتزاز آخر داخلي، وأنا أشعر بنظرات زبائن المطعم تنغرس في رأسي.
عربية ترتدي الحجاب، وما العجيب في ذلك؟ ترى ماذا يساورهم بشأني؟ هل يرهبونني؟ هل يتوقعون أن أضغط فجأة على زر حزام ناسف يلتف بوسطي؟ حاولت ألا أعبأ بهم خاصة ونحن نقترب من طاولة الزميل الداعي وزوجته. استغرقنا بعض الوقت في التعرف، وتبادل كلمات المجاملة إلى أن جاءنا الجرسون ليرى ماذا نطلب على العشاء، ومد يديه بقائمة طعام لكل منا، لم أنجح بالطبع في فك طلاسم حروف الروسية التي لم أكن قد تعلمت شيئًا منها بعد، لم يكن هناك شيء بالإنجليزية في هذه المدينة إلا فيما ندر. انخرطت زوجة زميلنا التي كانت على دارية ببعض الروسية في حديث مطول مع الجرسون لتخبره بأننا نريد طعامًا خاليًا من الكحول، ولحم الخنزير، فإذا بالجرسون يرفع حاجبيه متعجبًا من طلبنا ذلك، وبعد مدة من محاولة الزميل وزوجته -اللذين سبق لهما الإقامة ببلد روسى من قبل- اختيار أصناف الطعام، وإضفاء بعض التعديلات عليها حتى نحظى بشيء للعشاء في النهاية، ولما طال الحديث اقترحت عليهم أن نختصر الأمر للنهاية باختيار صنف الحلو كبديل عن العشاء، فسقطوا ضاحكين. جاءت أخيرًا أطباق الطعام، وكانت عبارة عن دجاج مشوي مع الأرز والسلطة، بعدها جاء صنف الحلو، الذي لا أذكر ماذا كان فسامحوني. طيلة مدة جلوسنا في المطعم كنت أشعر بنظرات فضولية تتسلل إليّ، انتهت الجلسة، وفي الطريق إلى السيارة، تأملت الناس من حولي، فشعرت بأنني قد بالغت كثيرًا في اعتقادي بأني محط أنظار، ووجدت أنهم لا يعيرون انتباها بالشكل الذي وصفه ابني وتصورته، أخذت نفسًا عميقًا، ورفعت رأسي باعتزاز.
«يتبع»