تقليعة جديدة في عالم الحفلات التي يرتادها "الذوات" وأصحاب المراكز العليا والذين يصنّفون على أنهم ضمن فئة (CLASS)، الأمر الذي يميّزهم ويمنعهم من ارتياد أماكن ترتادها فئات أخرى تطلق عليهم النخب تسميات منها (الشراشيح)، أو (بيئة) باللهجة المصرية...
(الشرشوح) بالمفاهيم المعمول بها حالياً هي صفة تطلق على طبقة ليس بالضرورة أن تكون فقيرة بل هي على العكس، فئة لها قدرة كبيرة على تحريك السوق المرتبطة بالسهر والمطاعم ونوادي الليل، وبتعبير أكثر رسمية يصنّفون بـ (حديثي النعم) وعادة ما يفرطون في الاستهلاك على جميع الأصعدة، ويبدو ذلك في المبالغة ومحاولة إظهار ماركة الحقيبة التي تحملها الزوجة أو الصديقة، ونوع الفرو المشلوح على الأكتاف إذا كان ضحيّته (دب روسي) أو مجرّد دب صيني مزوّر. للحذاء أهميته أيضاً، فهو من المنتجات التي قد تحدّد انتماء الفرد الطبقي، حيث تبرز قدرة البعض على تفحّص الحذاء وتمييزه إذا كان إيطالياً، أم مجرد صناعة وطنية أو ما يعادله من صناعات من الدول الفقيرة.
وسائل التعبير تختلف من طبقة اجتماعية إلى أخرى، ولكل فئة طريقة مختلفة للتعبير عن الفرح المرتبط بالموسيقى وقدرة على تمييز حفلاتها من خلال الفندق والقاعة والمدعوّين ونوع الأكل والزهور والكثير من التفاصيل... ما الرابط إذاً؟
إن اللافت للنظر هو نهاية الحفلات الموسيقية عند الفئتين لتبدو متشابهة إلى حدّ كبير، لعلّ هناك عناصر مشتركة تحفّز على إظهار الأصول عند المحتفلين مهما اختلفت الطبقات التي ينتمون إليها.
كان لي شرف حضور عدّة حفلات لفئة النخبة، ولفتني الأسلوب الجديد في انطلاق الحفلة. صوت بيانو ثم ضربات إيقاع تانغو، ليأتي صوت مغنية تشدو بالإسبانية. ولا بأس إن بدت اللكنة اللبنانية واضحة، ثم أغنية فرنسية تبدو مألوفة عند الساهرين للمطربة (أديث بياف). ومن بعدها أغنية إنكليزية، ويزداد التفاعل عند الفرقة وتتداخل الموسيقى وتمرّر لحناً شرقياً مخفّفاً قد يكون لفيروز كأغنية "قديش كان في ناس" لتبدو هذه الأغنية وكأنها "طُعم" لفحص تقبّل الجمهور، ولمعرفة كم هو قادر على التفاعل مع الموسيقى الشرقية، فإذا أبدى الجمهور ارتياحاً للتجربة الفيروزية يزداد الأمل قليلاً، فبعد (الدروس الخصوصية) في اللغات الأجنبية التي حصلنا عليها في بداية الحفل، يأتي لحن راقص للفنانة ماجدة الرومي كونها محسوبة على الفئة (CLASS) فأغنياتها مرحّب بها في مطلع الحفلة كونها جاءت في الفترة التي لا مجال فيها للاستعراض الراقص الذي يحتفظ به الحاضرون إلى القسم الأخير من الحفلة، ويكتفون حتى الآن بمتابعة ما جدّ على (أفواه) السيدات من عمليات تجميل، وتكبير للشفاه، أو ما (نفخ) من مقدّمات ومؤخرات. هنا ألحظ شيئاً آخر لافتاً وهو عدم انسجام الساهرين بكل الحالة الفنية، بل يتعاملون معها على أنها مجرد خلفية لأحاديث عامة، ويستغلّون نهاية كل أغنية لتمرير التعليقات، بينما الفنانة تنتظر من يصفّق برغم خيبات الأمل المتكرّرة التي تدفع بالفرقة الموسيقية إلى المواصلة بالانتقال من أغنية إلى أخرى كي لا يتسبّب الوقوف بالحرج للفرقة والمغنية أو المغني.
تنهي المطربة فقرتها ليطلّ شاب يصدح بصوته الأوبرالي مقدّماً لحناً إيطالياً معروفاً، الأمر الذي قد يلفت الحاضرين ولو لحظات قليلة ليتأكّدوا من أن الحفلة للنخب وليست (للشراشيح) كون هذا الفن نخبوياً مئة بالمائة، وهم على ثقة أن الأغنية للفنان الإيطالي بافاروتي أشهر مغني أوبرا عالمياً، ولعله الأكثر شهرة بين العرب.
يصدح مطربنا ويحاول الانتقال إلى ألحان روسية وإنكليزية دون جدوى في أن يحصل على تحية تليق بفنه، فبالرغم من موهبته التي تستحقّ فعلاً التصفيق، إلا أن التصفيق في عالمنا العربي أصبح على ما يبدو يستهلك في مناسبات أخرى غير الفن.
بعد مرور ساعة من وقت الحفلة، بات الجميع على استعداد للتبارز في الرقص والتخلّي عن كل (التكشيرات) التي دخلوا بها إلى الحفلة، فيأتي صوت الطبلة منفرداً وكأنه نداء الواجب، ويهبّ جمهور السهرة بانفعال منتظر لهذه (اللحظة التاريخية). فترى السيدات يتقاطرن للهجمة على المسرح المخصّص للرقص، ووراؤهنّ الرجال الذين يتمايلون في حضرة الطبلة، ويبدأ مطرب السهرة بالغناء يملؤه الفخر كونه من أنقذ الحفلة واستطاع أن يقلب الجو إلى الفرح المنشود من السهرة بالأصل، فمجموعة الأغاني التي يختارها غاية في الشعبية وهي الأغاني التي يطرب لها (الشراشيح) وكل شرائح المجتمع، وهنا تبرز أحد أهم خصال الموسيقى كما وصفتها المطربة العالمية (مادونا) بأغنيتها الشهيرة (الموسيقى تجعل الناس سوياً)، فهي القادرة على إزالة الفوارق الاجتماعية التي تجسّدها الحياة اليومية... "(كراسي يا معلمة، وعلى العين موليتين، وعايل ماني عايل، وبحبك يا حمار، واركب الحنطور) وما شابه من أغانٍ تعكس انسجاماً عند جميع الطبقات دون الدخول إلى التفاصيل....