في طفولتنا كنا نحن العيال الصغار، نتساءل أثناء لعبنا في الحارة عن أكل الملك، تتردد بيننا حكايات عن ثراء موائده، وغرابة الأصناف، وقدرته الفذة على الالتهام، ومما أذكره ما كان يتردد عن سلق الخروف وتركيزه حتى يصبح ملخصًا في كوب يزدرده على الريق!
دارت الأيام وأتيح لي أن أطلع على بعض قوائم الطعام الملكية، وأدركت الفارق بين التصور الشعبي، والواقع الملكي، وخلال العديد من السنوات التي حرصت فيها على جمع نفائس الأدب العربي القديم لفت نظري الاهتمام بالأكل، حتى ليمكن القول بأن هناك مكتبة متكاملة في أدبنا القديم والحديث حول الطعام، أصبحت مهتمًا بهذه المؤلفات، وتحتل الآن ركنًا من مكتبتي، لا ينافسني إلا صديقي فاروق مردم بك، أحد كبار المثقفين العرب، ويعيش في باريس منذ ربع قرن، ويلعب دورًا هامًا في تقديم الأدب العربي من خلال دور النشر الفرنسية، خاصة دار اكتوسود التي أنشأ بها سلسلة خاصة للأدب العربي، تعد الأنجح حتى الآن، غير أن اهتمامه بكتب الطعام شامل، ولا أذكر أمامه عنوانًا نادرًا إلا وأجده مطلعًا عليه، وملمًا به، وقد أصدر كتابين؛ الأول بعنوان «في مدح الحمص»، ويعد موسوعة بالفرنسية عن الحمص وأنواعه وطرق إعداده للطعام وتقديمه، والثاني عن زرياب الذي علم أهل الأندلس صنوف الحضارة، ومن أهمها طرق طهي الطعام المعقدة، التي مازلنا نرى بقاياها في المطبخ المغربي الثري حتى عصرنا هذا. من كتب الطبخ النادرة التي لم أتصور أن فاروق لديه نسخة منها «حسن الأنام في أطايب الطعام» تأليف الأسطى أحمد إبراهيم الطباخ الخاص للخديو، أو كما يعرف لقبه «عشى باشا الخديو إسماعيل باشا».
لابد أنني اقتنيته من أحد مصادري للكتب القديمة، ومن عادتي أن أدون تاريخ دخول الكتاب إلى مكتبتي، وهذا الكتاب دونت عليه تاريخ الثامن والعشرين من ديسمبر عام واحد وسبعين من القرن الماضي، ويحتل موقعه فوق رف خصصته لكتب الطعام في الأدب العربي القديم وآداب المؤاكلة، الكتاب طبع في نهاية القرن الماضي، ويشير الغلاف إلى أن هذه النسخة من الطبعة الخامسة، أي أنه كان رائجًا ومنتشرًا، طبعه صاحب مكتبة سوق عكاظ لصاحبها منصور عبد العال، وطبع في مطبعة التقدم بشارع محمد علي بمصر، ومثل كل المطبوعات القديمة كان يتصدر النسخة فاتحة الكتاب، وجاء فيها ما نصه: «الحمد لله الذي أنهل أحبابه العارفين بلذيذ شرابه، وأهل أهله المصطفين للتمسك بالشرع وآدابه، حمدًا يكسبنا رضاه ويكسينا سندسًا أخضر حين نتشرف بحماه، له الحمد على ما ميز به الإنسان وعلمه إياه وشرفه بالعقل عما سواه، فاستخرج به لآلئ الغرائب من معادنها، واستنبط رقائق الدقائق من مكمنها، والصلاة والسلام على النبي المجتبى هادينا المصطفى، أما بعد فيقول الفقير إليه تعالى أحمد بن إبراهيم عشى باشا المرحوم المبرور الخديو الأسبق، أسبغ عليه سجال رحمته ورضوانه، إنه لما كانت صناعة الطبخ حتى الآن مهجورة لم يتعهدها أحد من أهل هذا الفن إلا البعض القليل من ذوي البضاعة الكاسدة، وقد طلب مني شرذمة من الإخوان أن أضع لهم فيها كتابًا يكون شافيًا وافيًا يُهتدى بنجومه ويرمى برجومه، فتلبية لطلبهم قد شرعت في وضع هذا الكتاب اللطيف بشرح موجز ظريف خالٍ من التطويل الممل والإيجاز المخل، حاوٍ لجميع ما تستلزمه هذه الصناعة الشريفة من الضروريات،
«الطريف أن الأسطى أحمد وقع المقدمة بلقب «فيلسوف الطعام».
للتفاعل مع الكاتب عبر sms أرسلوا: جمال ثم فراغ ثم الرسالة إلى الرقم: 80833 (السعودية)