هي لقاءات لم أتوقعها، لم أربط بين الصوت وشخصها الذي أعرف، بالأمس اتصلت بي عبر الهاتف، قالت إنها سوزانا، أستاذة الأدب العربي، تزور مصر وترغب في رؤيتي، حددت لها موعدًا، بالضبط جاءت في الواحدة، عندما اجتازت الباب مبتسمة، ظننت أنها طالبة من اللواتي يدرسن العربية، اعتدت ذلك، أعرف طريقة النطق التي تختلف طبقًا للبلد الذي ينتمي إليه الطالب أو الطالبة، تتأثر اللغة العربية باللغة الأولى، للروس نطق، وللفرنسيين آخر، كذلك وسط أوربا الذي تنتمي إليه، لم أصل بين الصوت وتلك الرقراقة، الطيفية التي التقيتها عند زيارة الجامعة في عاصمة موطنها، رحبت بي وصحبتني إلى جولة في المكتبة الوطنية، مازلت أرى خطوها، ملامحها التي لم تفارق سنوات طفولتها، حديثها عن عملها مترجمة لفترة من الوقت في شركة بالإمارات، أيضًا مجيؤها إلى مصر كمرافقة للمجموعات السياحية، بعد عودتي إلى مصر تلقيت منها رسائل بالبريد الإلكتروني، في إحدى المكالمات الهاتفية مع أستاذها أثناء عبوره القاهرة بسرعة، قال إن سوزانا تُكنُّ مودة خاصة لك، احتفظت برسائلها الإلكترونية، إحداها تحتوي صورة لها مرتدية فستان سهرة، تقف مشرعة كمسلة، ثلاث سنوات فارقة بين لقائي بها هناك وظهورها بغرفة مكتبي، عابرة الفراغ بيننا، مرتدية كنزة من الصوف، ياقة مرتفعة، وبنطال جينز.
تهللت، قلت معترفًا إنني لم أسمع جيدًا، لم أربط بينها وبين الصوت الذي سمعته أمس، وإلا كان الرد اتخذ مسارًا آخر.
من مجلسها تتطلع إليّ مبتسمة، شفتان ثريتان منفرجتان بقدر، ملتقى دهشة متأصلة، طفولية الملمح، فيها قبول أيضًا وإعراض، عندما تتنافر العناصر تبدأ الحيرة، أستفسر عن أيامها القاهرية، تقول إنها مبسوطة جدًّا، زارت الخان والمعز، أمضت وقتًا في بيت السحيمي، لكنها لم تذهب إلى مدينة الموتى بعد، ومنطقة سقارة.
تتطلع إليّ من أسفل إلى أعلى، تميل إلى الأمام، قوامها فاره، لكم عاودني بعد رجوعي من ديارها التي أقمت فيها أسبوعين، رافقتني خلال ترددي على الجامعة، عندما أقبلت على المكتبة الوطنية، لحظة ظهورها ودخولها مجال بصري سطع ألقها، كأنها نابعة من صميم أمنياتي، هاهي أمامي، يفصلها عني سطح المكتب، الباب مغلق، لكن يمكن لأي قادم أن يدير المقبض ويدخل مباشرة.
أتجاوز عن تلميحها زيارة القاهرة القديمة وسقارة، تمنيت ألا أتذكر ذلك مرة ثانية، لم تتبدل ملامحي، لم أبد أي رد فعل، سألت عن محل إقامتها، قالت إنها تسكن مع طلبة قرب جامعة القاهرة، منهم صاحبة لها، من موطنها، لكنها من مدينة، وتبعد عن العاصمة حوالي مائتي كيلو متر، إنها هنا الآن لدراسة اللغة العربية، تقيم في حجرة بمفردها، مكان نظيف مريح.
لم أستفسر عن نوعية الطلبة، ذكور مع إناث، أم جميعهن من بنات جنسها، يبدو لنا الأمر مثيرا، ولكن بعد فترة من المعايشة واكتمال الإحاطة بالدخائل نقف على غير ما نتصور، ليس ضروريا وقوع الاتصال مع الإقامة تحت سقـف واحد، أفهـم ذلـك الآن بعد طـول تجوال واطلاع، لم أهتم بتحسس المسالــك المؤدية إلـى الإحاطــة بصلاتها، علاقاتها، تبدو راغبة في البوح، لا في القربى، أو الصحبة.
بعد مساحة صمت أمسحها بسؤالي عن احتياجاتها من الكتب، تقول إنها اشترت عددا من الروايات الجديدة، لكنها لا تجد كتبا ذات شأن في مجال النقد والبحث الأدبي، أجيب محتجا لأنها لم تسألني عن العناوين التي تريدها، كان يمكن أن أوفرها، عندي إلمام بما يصدر، ليس في القاهرة ولكن في الأقاليم، أقول إن المطابع تدفع بأعداد كبيرة من النصوص، لكن الفرز أمر صعب، فعلا يحتاج الأمر إلى حركة نقدية، حدثتني عن أستاذها إيمانويل المهتم بالدراسات الأدبية، سألتها عما إذا كنت رأيته خلال أيامي هناك، قالت بدهشة: تناولنا معه العشاء، والتقيته مرتين في الجامعة، أومأت برأسي مرتين، مدعيا أنني تذكرته الآن، لم أحتفظ له بأية ملامح، ولم يستدع اسمه أو حديثها عنه أي قسمات محددة، غير أنني رأيتها هي في هذا العشاء الذي حضره ثلاثة من أساتذة الأدب العربي، درسوا في مصر الستينية، توالت أسئلتهم عن المطاعم التي اختفى معظمها الآن، عن مقاهي وسط المدينة، عن الندوات التي رحل أصحابها الآن فتوقفت.