اللقاء الأول بينك وبين مدينة تراها للمرة الأولى كاللقاء بإنسان لا تعرفه. تتحرك موجات إحساسك، تتفاعل مع الأماكن والبشر، فتشعر إما بألفة وانسجام، أو ببرودة واغتراب
هذا ما يحدث لي دائمًا في تجوالي في أرض الله الواسعة، وهذا ما وضعني فيه القدر عندما اخترت مهنة الصحافة، ومارست العشق للأدب. فقد تعددت سفراتي؛ إما في مهمات صحفية، أو مؤتمرات دولية، أو لإجراء حوارات لشخصيات أثرت في العالم، وأهمها حواري مع رئيسة الوزراء الباكستانية الراحلة «بنظير بوتو» في إسلام آباد عام 2000، وكانت وقتها تحكم بلادها كأول سيدة مسلمة تتولى هذا المنصب في دولة يدين
99 % من سكانها بالإسلام، وهي باكستان
سافرت كثيرًا: من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب. شاهدت كثيرًا. السفر يمنحك ثقافة، ومعلومات، وخبرات بلا حدود. والأهم من ذلك أنه يجعلنا نرى الدنيا من خلال زاوية أكبر وأشمل، ونستوعب البشر باختلافاتهم وتشابهاتهم وتناقضاتهم، ونكتسب قدرة هائلة على تقبّل الناس كما هم، لا كما ينبغي أن يكونوا
أعود إلى نقطة البداية. العلاقة بيني وبين الأماكن، وبالتحديد المدن التي أضع فيها رحالي، وأختار واحدة من المدن التي وقعت في غرامها من أول نظرة... أقصد أول زيارة؛ إنها: روما عاصمة إيطاليا
روما الملهمة، موطن العشاق والفنانين والحالمين. مدينة تستقبلك بالفن، وتطل عليك بهالة مهيبة معتقة برائحة التاريخ. تفتح ذراعيها مرحبة بزائريها من كل بلاد العالم
الميادين الفسيحة والساحات الجميلة مسارح مفتوحة، يقدم فيها الهواة عروضهم الشائقة المثيرة. رسامون ينزوي كل منهم في ركن، يفترش ألوانه وفرشاته وأوراقه، ومقعد خشبي صغير يجلس عليه، وحامل رسم يضعه أمامه، أو إسكتش صغير يسنده على رجله، وفي يده قلم فحم. يجلس الزائر لميدان «نافونا»، الذي يطلق عليه الإيطاليون اسم: بياتسادي نافونا، أمام الرسام عشر دقائق فقط، وبعدها يمد الرسام ورقة «الكانسون»؛ لتجد «بورتريه» شديد الدقة، بالغ الجمال والروعة له!
والرسامون في «بياتسادي نافونا» أنواع؛ منهم من يرسم البورتريه الطبيعي، ومنهم من يرسم البورتريه الكاريكاتوري.. تخصصات.. وإبداع وروعة
في روما؛ تلك المدينة العريقة يعزّ على السائحين النوم، هكذا رأيتهم في زيارتي الأولى لها في يوليو 2010، يجلسون في ساحة «نافونا» الشهيرة أمام التماثيل الضخمة الأربعة التي تتوسطها. تلك التي نحتها المثّال العالمي برنيني
يمثّل كل تمثال أهم أنهار العالم، ويتصدر نهر النيل «رمز النيل» تلك التماثيل الأربعة، وخلفيته نخلة أصيلة، ويسبح في مياه النافورة تمساح النيل
تتوسط تلك التماثيل الأربعة مسلة مصرية فرعونية، هي واحدة من ثلاث عشرة مسلة مصرية تتوسط أشهر ميادين روما، وهي علامة على تجذّر الروابط التاريخية والثقافية بين مصر وإيطاليا
أما «بياتسا ديل بوبولو»، أو ميدان الشعب، فهو مكان رائع يتجمع فيه الناس حول التماثيل الرومانية والنوافير والمباني والكنائس العريقة التي تميز روما
في روما التاريخ معجون بالحياة، فليست هناك أماكن للمزارات التاريخية، ومناطق أخرى سكنية، بل هناك خلطة سحرية بينهما، فالتاريخ حاضر في كل مكان.. كل ركن.. كل ميدان.. وهو جزء من الحياة اليومية العادية. متحف مفتوح.. والله.. وأكثر
«بياتسا ديل إسبانيا» من أكثر الأماكن الخلابة هناك.. عبارة عن سلالم طويلة مرتفعة، يجلس عليها الشباب والكبار والصغار بالساعات. منظر مبهر، فالسلالم تتحول إلى ما يشبه المدرجات في «الإستاد»، يلتقي عندها الشباب يغنون.. يرقصون.. يتسامرون.. يحبون. وأمام تلك السلالم نافورة شهيرة اسمها «باركاتشيا»؛ أي المركب القديم. يتنقل مرتادو المكان بين السلالم والنافورة، ويستلهمون سحر المكان الرومانسي الحالم.. البديع. الساعات تمضي دون أن تشعر بها، والزمن يتوقف في خشوع أمام شموخ الحلم واللحظة
«فونتانا دي تريفي» نافورة الأحلام والأمنيات. هناك تعطي ظهرك للنافورة، وتمسك العملة الفضية بقبضة يدك اليمنى لتلقي بها إلى النافورة من فوق كتفك اليسرى. هكذا يفعل زوار «فونتانا دي تريفي»، يغمضون عيونهم، ويتمنون ثم يلقون بأحلامهم وأمنياتهم إلى النافورة الرومانية الشهيرة، نافورة الحب والحالمين