انفردت مع ذاتي، واستغرقت في التفكير في أمور تحدث من حولنا، تصرفات حرّكت بداخلي الإحساس الكامن تجاه بعض السلوكيات التي تجمدت بداخلنا من فرط ضغوط الحياة وخشونة الظروف التي نحياها، وتدور ضمن دائرة الإحباط والصدمة والتعاسة والكذب والأنانيَّة والقسوة والازدواجيَّة. لماذا اختنقت مسافة التسامح بيننا، وضاقت مساحة العفو إلى حد ينذر بالخطر؟ إن ما نشاهده ونسمعه ونلمسه اليوم يعلن أن ما نعيشه من سلوكيات وتصرفات، ومن أقوال وأفعال تعلن عن واقع أليم نتجرع مرارته في كل لحظة، ووجدت نفسي أدور وأفكر، وأقول ماذا حدث لنا؟ كلنا نعلم أنَّ الصدق منجٍ، لكن بعض الأشخاص لا يؤمنون بذلك واستحلوا الكذب وأدمنوا عليه؛ لأنه من وجهة نظرهم يفتح لهم كل الطرق المغلقة، وأنَّهم بكذبهم يعيشون في واقع غير واقعهم عن طريق سرد حكايات ونجاحات وتصرفات من نسج خيالهم، فهم لا يحبون أن يعيشوا في الظل أو على هامش الحياة، ومع استخدام هذا الأسلوب اعتادوا عليه، ولم يجدوا صعوبة في الاستمرار فيه، فالشخص منهم يكذب الكذبة ويصدقها ويعيش فيها ويتكيَّف معها ويتسرَّع في فهم تصرفات الآخرين، ولا يفترض ذلك في نفسه، ويرفع شعار الصدق والصراحة، وهو أول من يكذب لتحقيق مصلحة أو منفعة من أي نوع فيكذب بمنتهى الصدق، ولننظر إلى جانب آخر في منتهى الخطورة، ولنعرف كيف تدار بيننا المناقشات أو ما نطلق عليه مصطلح حوار. هل هو بالفعل حوار هادف وبناء، سواء في مكاتبنا أو في وسائل الإعلام أو في الشارع أو في الزيارات أو في القطاعات الحكوميَّة أو الخاصة أو في أي مكان وحتى بين أفراد العائلة الواحدة؟ لم يبق سوى أصحاب الصوت المرتفع الذين يصمون آذاننا، ويملأون المكان ضجيجًا وصخبًا بتسلطهم وعصبيَّتهم واستبدادهم، فئة تعوَّدت على الاحتجاج بلا منطق وبلا وجه حق على كل شيء وأي شيء، وكأن الصوت العالي هو المخرج الوحيد لهم للخروج من أزماتهم، وكأن الاعتداء على الآخرين بالألفاظ القاسية والجارحة أصبح حقًا مكتسبًا لهم، بالفعل نحن غير مدربين على معرفة كيفيَّة إطلاق سراح أفكارنا للتعبير عن مشاعرنا، وأصبحت معظم مناقشاتنا جدلاً ولا تعكس إلا حالة خواء فكري، وانزلاق إلى هاوية الخلاف وشخصنة الأمور. بالله عليكم انظروا كم عدد البرامج والرسائل التي تبثها أجهزتنا الإعلاميَّة والتعليميَّة والتربويَّة، التي تنادي بضرورة الحوار الهادف الفعَّال، ونحن أبعد ما نكون عنه وغير قادرين على الحوار حتى مع أنفسنا. انظروا إلى كم البرامج التوعويَّة والندوات والدورات والحملات التي تنادي بحسن الخلق والتعامل الراقي، ومع الأسف لا نجد إلا والأمور قد ازدادت سوءًا. ومن جهة أخرى لو نظرنا لقضيَّة احترام الوقت من جوانب متعددة ولأمثلة مختلفة، فهل نحن حقيقة نقدِّر ونحترم الوقت، ونعرف أهميته وكيفيَّة استثماره، تأملوا معي وسنجد على أرض الواقع أننا لا نحترم الوقت ولا نقدِّر قيمته. ولو نظرنا كم هي مضيعات الوقت أثناء العمل الرسمي لوجدنا كمًا هائلا من الوقت يستغل في أعمال شخصيَّة أو محادثات جانبيَّة، هذا عدا الإجازات العرضيَّة والمرضيَّة والاستثنائيَّة بجانب الانتدابات وخارج الدوام... إلخ. تنظيمات يعرفها كل من يعرف خبايا وبواطن الأمور. ولنواصل التحليق ونتأمل معًا كم من الأعوام التي ضاعت من عمرنا في دراسة مناهج لا تسمن ولا تغني من جوع، وبعدها كم من الوقت الذي ضاع في البحث عن جامعة تواكب رغبتنا وتحقق طموحاتنا، وبعدها كم من الوقت ضاع في البحث عن عمل في أي مكان، صحراء كان أو بستانًا حتى لو كانت الوظيفة لا تمت بأي صلة لكل ما تعلمناه ودرسناه طوال حياتنا. أليس كل تلك الدورة الحياتيَّة تعتبر إهدارًا للوقت.
أما لو تحدثت عن زياراتنا وما يتبعها من ذوق كان يجب أن نتحلى به، وكأنَّ الزائر له حق مكتسب من دون أدنى اعتبار لأي ظروف نمرُّ بها، فسنرى العجب العجاب، فكم من الأشخاص الذين يفاجئونك من دون موعد سابق وفي أي وقت، سواء في مجال العمل أو على المستوى الشخصي، حتى أوقات زيارة المرضى لم تسلم من التحايل عليها، وكم من الساعات التي تُهدر وتضيع ما بين مشاهدة التلفاز الذي تعدَّدت قنواته بالمئات، والتنقل بين النت بكل نهم وشغف، وبين النوم أو الأكل أو عناية شخصية أو تسوق أو ترفيه أو زيارات، وهناك الكثير والكثير من السلوكيات التي تثقل القلب بالألم والمرارة، فليست هذه أخلاقنا ولا تربيتنا ولا بيئتنا، ولو أردنا التغير فمن أين نبدأ لنكون كما قال الله تعالى في محكم كتابه «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا»، وكيف نتغير لنصبح مجتمعًا صالحًا متطورًا بأخلاقه وخدماته وحضارته؟ حتى نتمكن من مواجهة الموقف العظيم، يوم الحساب وهو يوم سنسأل فيه عن عمرنا وصحتنا ووقتنا ومالنا كيف وأين ضيعناها؟.