من الصبابة والوجد ـ1ـ

 

أعلم- أيدك الله بفهم من عنده- أنني عندما نزلت هذا البلد، كنت غريبا، إقامتي محدودة، والمدة مبينة، مثبتة على وثائق سفري، لا يمكن لي تجاوزها، أو مدّها، فهذا زمن مقدر سلفا محكوم مقدما، إذا قُدِّر لي اجتيازه، فبعده أنا منقلب حيثما جئت، وبرغم إدراكي هذا، وشدة انتباهي إليه مضيت عند ظهورها، انسقت غير عابئ، نافضا الصدَّ عن مغاليق طال اختباء ما وراءها.

متى رأيتها أول مرة؟ متى وقع نظري عليها أول مرة؟ متى اهتز ما يصل عيني بقلبي؟

والله يا أخي ما من إجابة دقيقة عندي، ما من تحديد، ما من نقطة يمكنني تحديد البدء عندها، فلا أبالغ إذا قلت لك إنها قديمة عندي، ربما بدأ أمرها قبل أن تجيء إليَّ، أو أجيء إليها، وعند تقدير بعينه، ونقطة اقتضتها الحركة، تم التلاقي فتفجر الشرر غير أن المقطوع به، أنها لم تغادر موطنها هذا الذي جئته أول مرة، لم تخرج منه، لم تفارقه، كما أني لم أنزل هذه الديار من قبل، إنما جئت لحضور ذلك الاجتماع الذي دعي إليه أناس من أجناس شتى، لا أشك لحظة أن عينيّ وقعتا عليها في الفندق الكبير، حيث نزلنا، وفي القاعات أصغينا، وجرت المناقشات، لابد أنها راحت أمامي وجاءت، مضت، غير أنني بقيت غافلا، لم أنتبه، لم أكن بعد! ربما لأن الجمع كثير، والذهن مشغول بأمور شتى لابد من انقضائها، أو تحققها، لكن.. هذا غير دقيق، فانشغالي لم يخف، وغيومي لم تنقطع، عندما رأيتها أول مرة، هذه المرة التي لا يمكنني تحديدها، أو الإشارة إليها، هذا صعب، فلا يمكنني تعيين لحظة محددة قائلا: رأيتها عند هذه اللحظة أول مرة، أو في هذا المكان بعينه وقعت عيني عليها للمرة الأولى، لا يمكنني، مع أن الفترة محدودة، والوقت كله إذا حسبته بعداد الثواني والدقائق والأيام -حتى- قصير، وجيز، لا أقدر على التحديد مع أن يقينا بداخلي الآن وقد انحلت المدة، وغابت الحضرة أنني كنت أراها طيلة وقتي، ويتمكن الوهم مني، أوشكُ على اليقين، ثم تُعاودني الحيرة، فأجول خلال ذاكرتي وما انطوت عليه، متلمسا عبيرا لواقع كنت أمسك به بين يدي ثم انطوى، ولَّى، وخلف عندي البيْن والوجد، اعلم يا أخي، أنه من المؤكد أن هذا الفندق ضمَّنا معا، وأن تباعدنا في أول ليلة، أول بدء الجولة، في المدينة الأولى التي نزلناها بوسط آسيا، جزنا العتبات معا، ولجنا القاعات، بل ربما العربة من المطار إلى الفندق معا، جلست بجوار النافذة، أطل على المدينة التي لم أتصور أني بالغها يوما، وأن ليلة أو ليلتين من عندي ستمضيان بها، هي من أهل البلاد، مكلفة بمرافقة رجل من علماء الهند، أشيب الشعر، خفيف الحضور، دائم الحديث بصوت مرتفع، شاهدته بعدها، يمكنني تحديد اليوم، إنه ثلاثاء، يوم من عمر هذا الكون، أو لحظة لا أدري مقدار نسبتها إلى الأفلاك الدوارة، والمجرات المتباعدة، والذرات الدائرة، أو موقعها من عمري ذاته، فما مضى عندي علم به، وما أعيشه يقفل عائدا، وما سيجيء لا يقين ببلوغه، في صباح أول أيامي أزحت ستار الغرفة، تطلعت إلى ملامح المدينة، التي لم أتبينها تماما في الليل عند وصولنا مهما بلغت الأضواء من الحدة والسطوع، حمت بنظري فوق الحديقة الممتدة، لم يهن الشتاء من خضرة حشائشها وأشجارها، أما رد فعلي عند رؤية شجر التيوليب الباسق، الملتف حول ذاته، فكان تنفسا عميقا، هذا شجر تقع عيني عليه أول مرة، لم أطالعه إلا في منمنمات المبدعين القدامى من أبناء هذه الناحية، تبدأ الحديقة بعد انتهاء الساحة المبلطة برخام وردي، فسيحة، عريضة، وفيما بين بداية الساحة ونهايتها كانت تجول هي، تسعى، تمضي إلى حد الحديقة الأيسر، ثم تنتهي إلى الحد الأيمن؛ لتعود من جديد، لم أرَ الأهم؛ لأنه ما من أحد سواها في هذه الساعة المبكرة، أنثى شابة، فارهة، تفسح خطاها ما بين حدين، شجرتي التيوليب اللتين تقومان عند أقصى ركني الحديقة، كل منهما تحد اللون الأخضر، عند نقطة معينة تنثني، لا تتجاوزها، ترتدي معطفا رماديا طويلا، لا تحجب شعرها بغطاء الفرو الثقيل، لم أقدر على تحديد درجة الحرارة، مناخ هذه النواحي مختلف عن المدينة البعيدة، العاصمة النائية التي قدِمنا منها، لأمر يستعصي فهمه ويغمض كنهه اجتذبت بصري بكينونتها، لم تولِ لحظات إلا ولم أعد أرى سواها، لم أدقق ملامحها، فالبصر كليل، والمسافة غير مساعدة، أدركتها بكينونتها، تردد عندي حضورها، وصلني منها تأثيرها في هذا العالم، انبثاق حركتها ما بين شجرتي التيوليب، لماذا نزلت مبكرة؟ أتلك رياضتها اليومية، حركتها المعتادة في مثل هذا التوقيت، هل رصت أصداء قلق ما في سعيها، ربما..