كان المفتش السري يتفحص الجثة:
حجرة مغلق بابها من الداخل، ونافذتها موصودة من الخارج، عارية أرضها وجدرانها، ومن سقفها مشنوق يتأرجح!
كيف تم هذا؟. هذا عجيب، أسرّ المفتش لصديقه ومساعده المخلص دكتور «محمد، الذي يحترف الطب ويهوى حل الألغاز، ولكنه لا يمتلك الذكاء اللازم لحل اللغز وحده، فهو يكتفي بدور المشاهد، أو بالأصح المستمع؛ لأن المفتش يوجه إليه الكلام حين يريد أن يفكر بصوت عالٍ.
وأضاف المفتش، وهو ينحني نازلاً بركبتيه على البلاط
ولكن انظر يا دكتور
فحبا الطبيب على الأرض متجهًا إلى النقطة التي أشار إليها صديقه، الذي علّق منتصرًا:
آه.. لا يصمد لغز طويل أمامي. إن هذه البلاطة تختلف قليلاً عن باقي البلاط. انظر يا دكتور!. إن المونة الإسمنتية التي تلتصق بها وبغيرها من البلاطات تبدو حديثة.
ومر المفتش بإصبعه على الإطار الإسمنتي لتلك البلاطة وقال:
نعم! نادرًا ما يخطئ ظني. مرّ بإصبعك أنت أيضًا.. ألا ترى المونة الإسمنتية طرية بعض الشيء؟
فأجاب الدكتور بعد أن فعل ما أمر به صديقه:
صحيح. الإسمنت هنا أقل جفافًا وصلابة.. ولكن ماذا يعني هذا؟
فنظر المفتش إلى السقف مستغيثًا:
ربي!! يا عزيزي.. يا صديقي.. المسألة واضحة وضوح الشمس.
أنا لا أراها واضحة على الإطلاق.. بل بالعكس اكتشافك هذا لا يعني شيئًا.. كل ما في الأمر أنه يزيد المسألة غموضًا.
لا.. لا يا صديقي.. اسمح لي أن أختلف معك.. الشمس تشرق من تحت هذه البلاطة.. انظر إليها.. إن بلاط هذه الغرفة عريض بما يكفي لصعود قاتل من تحت بلاطة منه ثم عودته إلى نفق هو بالتأكيد موجود.
وانحنى المفتش مرة أخرى، وقد أخرج قادومًا صغيرة من يده وأجنة صغيرة لخلع البلاطة.. ولكن قبل أن يبدأ صاح صديقه محدود الذكاء: انتظر!
فنظر إليه المفتش غير فاهم، ويكاد يكون في نظرته لوم لتعطيله عن مهمته العاجلة؛ عن المجد الذي ينتظره بحل هذا اللغز العويص، الذي لم يمر مثله عليه من قبل، ولا على غيره من مشاهير المفتشين السريين: شيرلوك هولمز، هيركول بوارو، مس ماربل.. وأخيرًا المفتش محمود الذي هو نفسه.
قال الدكتور محمد بنبرة منتصرة:
تقول إن القاتل جاء وعاد من تحت هذه البلاطة.. فكيف أعاد تثبيتها ولصقها بالمونة الإسمنتية؟
نزل السؤال على المفتش نزول الصاعقة.
نظر مذهولاً إلى صديقه الذي لم يظهر من قبل أية علامات نجابة أو فطنة، صديقه الذي كان يستخدمه كجهاز استقبال يستطيع من خلاله أن يمارس الفخر بنفسه.
هذا أول سؤال ذكي بل سؤال وجيه جدًا- يسأله الطبيب في تاريخ علاقتهما، التي بدأت في المدرسة الابتدائية، حيث كان الدكتور محمد الطفل يجلس إلى جواره، في الفصل، في الحوش، في أوتوبيس المدرسة. وظل الحال على ما هو عليه حتى تخرجا في المدرسة الثانوية، ودخل محمد كلية الطب، ومحمود كلية الشرطة.. لكنه سرعان ما تركها وعمل حرًا.. مفتشًا سريًا خاصًا، يلجأ إليه الناس، وأحيانًا الدولة، حين يستعصي الحل على القدرات العادية.
ونجح المفتش محمود نجاحًا هائلاً. وظل الدكتور «محمد إلى جواره، يملك الرغبة ولا يملك القدرة، ظل يستقبل أفكار صديقه اللامعة منبهرًا بطيء الفهم.
والآن نزل سؤاله نزول الصاعقة: نعم، كيف؟ كيف استطاع القاتل هذا؟ أو كيف استطاعت البلاطة أن تستعيد مونتها الإسمنتية؟
لكن الرجل المتأرجح في السقف قال:
أنتما أحمقان. طفلان غبيان. ماذا يهمني أو يهمكما في هذا؟ لقد متّ وانتهى الأمر. سترثني زوجتي الشابة وتتزوج حبيبها، وينعمان معًا بثروتي. وأنتما تتركانني أتأرجح هكذا من السقف.. لا تفكران في أن تنزلاني وتريحا عنقي من هذا الوضع المؤلم!
نظر المفتش والطبيب لبعضهما في ارتياع، ثم سقطا على الأرض. ومن ساعتها لم يعد هناك المفتش محمود» ولا حتى الطبيب «محمد.