هذا ما رددته
بعد انقضاء رحلتنا، بعد فوات اللحظات التي تعانقت فيها أيدينا قبل أن تلامس الطائرة
الأرض، وعندما توقفت بنا، قامت إلى حقيبتها فأخرجت غطاء رأس، ثقيلا، نافر الشعيرات،
ناريا، وهكذا تبدل ألقها بألق جديد، كنت أتأهب لأول لحظات أعيش فيها الوجد بعد الصبابة،
كنت لا أقدر على معانقة اللحظة كما أشارت عليّ، فكل لحظة إلى بلى صائرة، ومما ألم وعيي
حدة إدراكي بأنني مفارق هذه الديار كلها بعد يومين، موعد إقلاعي وأوبتي، ولما ارتديت
معطفي، وخضت في البرد الصقيعي، ودعتني بابتسامة وقالت إنها لابد أن تصحب الرجل الهندي،
وأنها غابت عنه طويلا فأومأت، قلت لها: إنني أود لو أراها، فأشارت بإصبعها إلى غد،
وحددت السادسة، أي إنني أقضي ليلة ونهارا في مدينة تسعى هي فيها، وتظلني نفس سمائها،
وأتدثر كما تتدثر هي من شتائها، غير أنها في مكان وأنا في مكان، خففت عني، قلت فلأتأهب
للفراق الأعظم، فمن يدريني أنني قافل إلى هذه البلاد مرة أخرى، أو أنني ملاقيها في
مكان ما، حتى لو انقضت الشهور، وجئت، فهل سألقاها هي هي، فأي وجد ذلك الذي يتعقبني،
ويمضي في إثري، كنت أنثني تحت وطأة تعبي الذي بدأ بمجرد ابتعادها عني، ركبنا عربة واحدة،
جلست هي في المقعد الأمامي، وآثرت العزلة، ولم أستجب لمداعبات صاحبي، الذي قال: يبدو
أنك لم تهبط بعد، غصت في مقعدي، محملقا عبر النافذة في الأبنية المتشابهة واجهاتها،
إلى الثلوج البيضاء، إلى الأشجار المكللة بجليد روسي، إلى كنيسة منمنمة ألوانها، مستديرة
قبابها، إلى ضباب يخفي قمم المباني، فكأنها تنهض من دعائم الأرض، إلى عالم الغيب، كان
النهار مضيئا واهنا، والقوم يسيرون في لباسهم الثقيل، يمضون فوق الأرصفة إلى غايات
شتى، وكانت غايتي على وشك التذري، تدنو من التبدد، من التلاشي، فلن تمضي إلا ساعات
لن تطول، وأفارق هذه الديار غير دارٍ، غير واثق أني بالغها مرة أخرى، وما تبقى من زمن
غير مساعد، لا يمكن لعلاقة أن تنمو فيه، ولا لوصل أن يجري، فما كان يعنيني أن يتم تشييع
ما عندي لها، باتجاهها، لعله يجد منها مكانا أمينا، وبعد انتهاء رحلتنا داخلني يقين
أنني بدأت، وأنني جئتها بقبس من عندي، عند الفندق توقفت العربة، كانت قد مالت قليلا
برأسها إلى الجانب الأيمن، وضمت شفتها السفلى، أما الابتسامة فبوجهها كله، مدت يدها،
صافحتني، حسنا، إلى غد.
قلت حائرا:
متى؟
قالت مقوسة حاجبيها، لا أدري يا أخي إن كانت أبدت دهشة، أو تعجبا، أو استفسارا غير مرئي، أفصحت فجمعت، أبدت فدلت على جهات شتى، وددت لو لذت بسموقها، واحتميت بوارفها، ولكن لم يكن من السلام بد، ولا من الانفراد مفر، وكنت راغبا في التوحد بذاتي، والنأي عن المخالطة، واستدعاء ما انقرض من لحظات بصحبتها، هكذا هرعت صوب حجرتي، محتميا بهدوئها، بصوتها وفراغها، وعندما استلقيت اجتاحتني الظلال والرؤى، بدءا من القباب السمرقندية المنمنمة إلى مشارف رائحتها التي دنوت منها، عندما جاورتني في الطائرة، لكنني لم أرسُ عند مرافئها وخلجانها، حتى ما يدعه قوامها الباسق في الفراغ الذي يشغله، ولو عند مروق لا يستغرق مقدار إغماضة عين، كنت أشعر بتدفق الحياة في أوصال المدينة المدثرة بالثلوج، والشجر الذي لم تبل خضرته في البرد الصقيعي، وعندما أغمضت عيني، مستلقيا، كانت تجتاحني، تغمرني، ولم يكن لي عاصم بعد اليوم.