ماذا جرى منها ومني خلال رحلة الساعات الخمس، ونحن ما بين الثريا والثرى، أقول بعضًا من كل، إذ تناولت في البدء سلة قماشية وراحت تعرض عليّ بعضًا مما اشترته، فهذا عطر عشبي غريب أتت به من بخارى، لا يوجد مثله إلا في المدينة المنطوية على ماضيها، ولما تنسمته وددت لو أدركت مثله، وهذا كتاب عن مساجد سمرقند، قلبت صوره، وعند حواف صفحاته تلامس أطراف عالمينا الحسيين، وعجبت كيف فاتني شراؤه، ثم ضحكت، وأخرجت رغيفًا من الخبز الأوزبكي منتفخ الحواف، منبسط القلب، وقالت لي إن اسمه هناك «نون» فتذوقته منها بعد أن كنت موقنًا أنني لن أعرفه إثر إقلاعي وتمام جولتي، ثم أخرجت أوراقًا خضراء، مطت شفتيها، لا تعرفها، غير أنهم يأكلونها هناك، ثم عادت تضحك، وهي تقدم لي زيتونًا، وعنبًا كانا في كيس ورقي صغير، قالت: إنها لا تتناول في العادة عشاءها، ولكنها أحيانًا تجوع في الليل، فتؤثر الاحتفاظ بطعام يسير، قلت: إنني مثلها، لا أتناول إلا عشاءً خفيفًا، كنت أسعى، وأتمنى وأرجو تلمس أوجه شبه بيني وبينها، وهذا حال لابد أنك مدركه يا أخي، حدثتها عني، ولكم سررت، وطربت عندما تبين لي أن ما بين يوم ميلادي ويومها ستة عشر يومًا فقط، غير أنني تداركت ضاحكًا، ما أوسع الشقة، فما بيننا سبعة عشر عامًا، فأنا قاصد على غروب، أما صبحها هي فقريب، ونهارها قائم، لم يبدأ ميله بعد، رددت تاريخي، وقالت: إنها لن تنسى أبدًا، وعندما وجمت لحظة، شردت منها بادرتني متسائلة، عما أفكر، فقلت: إنني أتساءل عن المكان الذي سيكون فيه كل منا بعد سنوات عشر، فقالت: لماذا تشغل نفسك بما لا نثق من وصولنا إليه أبدًا، هذه الطائرة معلقة بين السماء والأرض، وخطأ أبسط مما تتصور كان حد النهاية، فلماذا لا نقترن باللحظة؟ سكت ولم أقل لها إن اللحظة التي نتوهم أننا نعيشها سرعان ما تنقضي، ولا يمكننا الإمساك بها، دائمًا تفلت، دائمًا تولي، فما نحن إلا في فوت دائم، وجلستنا هذه، وقربنا ذاك لن تمضي إلا أيام قليلة، وسيصبح هذا كله صورًا نائية، استرجاعها بالمخيلة، أرى الآن لحظة رحيلي واللقاء لم ينته بعد، وهذا جل اغترابي، وعين قلقلتي، لم أقل لها ذلك، غير أنها فيما يبدو، فسرت سماتي، ونفذت إلى لب صمتي، فقالت مرة أخرى: تبدو مهمومًا، تبدو وكأنك أكبر من سنك، لماذا لا تعيش لحظتك؟ لماذا لا تنفذ إلى جوهر آنيتك؟ قالت: إنها منذ ثلاث سنوات أجرت عملية جراحية لاستئصال الزائدة، رفضت المخدر، أصرت على إجرائها وهي في كامل وعيها، قالت: إن الألم له حد لا حد بعده، وإن الألم يقتل الألم، لكنها اكتشفت فيما بعد أيضًا أنها لم تطق الغياب، لحظة واحدة عن الحياة، حتى عن ذرى الألم، وتحملت، قلت لها: إنني عندما كنت في السجن منذ واحد وعشرين عامًا، تأملت رفاقي الستة والعشرين، كنا في عنبر ضيق قصي عن المدينة، كان بعضهم يروح ويجيء، فلفظت خاطرتي بصوت مرتفع.
ترى أين سنكون بعد عشر سنوات؟
تطلعوا إليّ صامتين، مفاجئين، ثم حاول كل منهم النطق والتخمين، كانت السنوات العشر تبدو نائية، ممتدة، مسافة شاسعة من الزمن، كان ذلك لمقاييس العمر وقتئذ، وإدراك السنوات، لقد انقضت عشر في إثرها عشر أخرى ومر نيف، وتفرق كل من هؤلاء إلى جهة، وبعضهم رحل عن عالمنا، ومنهم من نسيته تمامًا مع أننا قضينا شهورًا ستة متوالية معًا، نأكل في ماعون واحد، ولو أني شئت تفصيل ما جرى لكل منهم لفاض الأمر ولكللت، تساءلت عن السبب الذي أدى بي إلى دخول السجن، فأفضيت إليها وصرحت بما لم أبح به لقريب أو بعيد، غير أن ما أفلت مني واستوقفها قولي ساخرًا: كنا نحلم بتغيير العالم! فتساءلت بجدية: ولماذا؟ ألا يمكن تغييره حقًا؟ تطلعت إليها صامتًا، وتذكرت صاحبي الذي يقبع على مقربة مني، تفاؤله الدائم، وسعيه الذي يهدأ، وددت يا أخي لو قلت لها: إن السنوات التي تلت جعلتنا نبذل الجهد لنتمسك بالبديهيات، المفروغ منها، المتفق عليها، تلك التي لم نظن في بواكيرنا أنها موضوع للمناقشة، أو خطوط للتراجع، كدت أفيض.