في بلادنا يشتد الحر في هذا الأوان، وتبدأ درجته رحلة الصعود في الميزان؛ لتبلغ الذروة بعد شهرين من الآن.
لا أدري لماذا أتى هذا الكلام مسجوعا، رغم أني أرفض السجع شكلا وموضوعا، هل تتذكرين ما السجع يا سيدتي؟ كلنا أخذناه في المدرسة (تنطق «المدرستي» من أجل السجع)، إنه تشابه أصوات الكلمات، وهو في النثر كالقوافي في الأبيات. على كل حال لعنة الله عليه، فهو عادة مرذولة ورثها الكاتب القديم عن والديه، وأنا شخصيا لا ألجأ إليه، ولا يعجبني النص الذي يشتمل عليه.
ما علينا؛ سجعنا من هنا إلى الإسكندرية، أو إلى اللاذقية، أو بيروت، أو إلى الريفيرا، أو مارسيليا، أو فلوريدا أو كاليفورنيا، كلها مناطق ساحلية، فيها شواطئ وبلاجات، وبحر يصلح للسباحين والسباحات، أو الذين لا يحسنون العوم من العائمين والعائمات، وكل ما يقدرون عليه أن يطفوا على الموجات، كأنهم حطام مراكب أو كرات، أو زجاجات فيها رسالات، تركها قبطان سفينة تغرق للموج، ربما تصل يوما لابن أو أب أو صاحب أو زوج.
على كل حال دعينا من الأسماء، لنبلبط معا في بحور الشواطئ العربية. بالنسبة للتصييف في مصر، الإسكندرية كانت أهم مدينة، ثم راحت عليها حين أرادوا أن يوسعوا الكورنيش، فأكلوا شواطئ الرمال وأهدوها للأسفلت، وسفلتوا قصور أحلام الأطفال والكبار، المبنية من رمل مبتل، ولهذا السبب غربت الشمس لتصيف في المدينة، فطلعت في غربها قرى للتصييف يقصدها كبار القوم، أما صغارهم فيذهبون لمصايف الدلتا: راس البر وجمصة. والإسكندرية تحولت من شاطئ إلى ميناء، ومن مصيف لمدينة ساحلية.
لعلك سمعت عن مارينا، إنها كانت مصيف رجالات الدولة وأباطرة المال في مصر، ورغم أنها ككل كانت منتجع الصفوة، إلا أنها هي الأخرى كانت فيها طبقات، من القصور المطلة على البحر، لصف من الفيلات وراءها مباشرة، وفي الخلف الشاليهات، وقد قصدتها معزوما ذات يوم، وقضيت فيها زمنا ما أنزل الله به من سلطان، الزيطة والزمبليطة حتى مطلع الفجر، فهؤلاء قوم ينامون النهار كله، ويسهرون الليل كله، فويل للنائمين، الذين هم مثل باقي خلق الله ينامون الليل. الويل ثم الويل. وابقي قابليني إن استطعت أن تنامي دقيقة واحدة، أيتها الجميلة الافتراضية النائمة.
على كل حال شكرا لمن دعوني على هذي التصييفة، فأنا وإن كنت بعيدا عن البحر –كساكن شاليه- كانت أمامي بحيرة، صناعية لكنها بحيرة، فيها ماء بحر حقيقي أزرق، والسمك المشوي هناك كان سمكا صاحيا يلعب قبل شيه. وتلك كلها حسنات ونعم، وأود أن أضيف إليها بعض دواعي الشكر الأخرى، لكن لحيتي البيضاء في الصورة تأمرني أن أستحيي وأرعوي.
«وأنهم يقولون مالا يفعلون» صدق الله العظيم.
أستغفر الله أني من طائفة الشعراء، الذين صدق الرحمن حين وصفهم بهذا الوصف. فلعلك يا آنستي تتذكرين ما ذكرته في مقالة الأسبوع الماضي، عن الشيخوخة و«فقدان نضارة الإحساس». حسنا، لقد تغير الحال هذا الأسبوع، وعدت شابا بقوة سبعين حصانا. أو هكذا أشعر.
حقا إن الشعراء كل يوم بحال!
نعود إلى موضوع البحر والتصييف، وأقول إني بدأت سكندري الهوى والبلاج. لم أذهب عمري إلى رأس البر ولا جمصة ولا بور سعيد ولا بلطيم، فمنذ أن كنت شيئا صغيرا يلعب بالرمل المبتل ويبكي خوفا من البحر. ولم يكن في زماننا شيء اسمه الساحل الشمالي (مارقيا. ماربيللا. عايدة. مارينا... إلخ إلخ).
ولأني سكندري الهوى وقف الطفل داخلي من ذلك الساحل موقف العداوة، كأنه زوج أمه الذي حل محل أبيه. لكن ماذا نقول؟ إنها سنة التغير والتحول والتبدل التي لا تهدأ ولا ترحم. شاءت الضرورة أو الخطأ أو الحماقة أو الحكمة أن يأكل الأسفلت شواطئ الإسكندرية، ملاعب الصبا ومهد الأحلام والرؤى، الجميلة رغم هشاشتها، التي لا تصمد لأضعف موجة، لكنها تظل باقية بشكل ما، في ذاكرة الباني وفي ذاكرة المكان، كل هذا أكله الأسفلت، فلا حول ولا قوة إلى بالله.