مي زيادة


كتبتُ عنها ذات يوم: لقد وضع قلمها النقطة الأولى على صفحة الكتابة النسائية في القرن العشرين.

كانت رائدةً عملاقة، وشعلةً مضيئة، وصوتاً متميّزاً، أحدثتْ رنَّتُه تحوّلاً جذرياً في النظرة الى ما تكتبُهُ المرأة.

***

تلك هي مي زيادة المولودة ماري الياس زخّور زيادة.

أما كيف تحوّل الإسم فنقرأ شرحَها في رسالةٍ بعثتْها الى صديقِ القلم جبران خليل جبران إذْ تقول: "أَمضي بالعربية مي، وهو اختصارُ إسمي، ويتكوّنُ من الحرفين الأوّل والأخير من إسمي الحقيقي، الذي هو ماري. وأمضي إيزيس كوبيا بالفرنجية. غير أن لا هذا إسمي ولا ذاك؛ إني وحيدةُ والديَّ ولو تعدّدتْ ألقابي".

***

وكانت تلك الرسالة الى جبران فاتحةً لمرحلةِ التراسلِ بين الكاتبين المتحابين، برغم بُعدِ المسافة الجغرافية، واستحالةِ اللقاء. لكنّ العلاقةَ التي آلفتْ بين روحيهما تركتْ ثماراً طيّبة، وثروةً من أدبِ التراسلِ الراقي.

***

وُلدتْ مي في الناصرة، بفلسطين، وعاشتْ وكتبتْ في مصر؛ إنما والدُها جاءَ من بلدة شحتول في لبنان، وقد احتفلتْ بلديتُها في الخامسِ من شهر أيلول "سبتمبر" بإزاحةِ الستارِ عن نصبٍ أُقيم للأديبةِ في ساحةِ البلدة.

***

وقد وصفتْ مي انتماءَها في ما كتبتْ إذْ تقول: "ولدتُ في بلدٍ، وأبي من بلد، وأمي من بلد، وأشباحُ نفسي تنتقل من بلدٍ الى بلد. فلأيّ هذه البلدانِ أنتمي، وعن أيّ هذه البلدان أُدافع"؟.

***

انقضى واحدٌ وستون عاماً على وفاةِ مي، المولودة في العام 1886، ولا يزالُ إسمُها مُشعاً، وذكرُها يُثيرُ الجدل، ويردُّنا الى مراحل من نضالِ المرأة، وبوادرِ النهضة النسائية في العالمِ العربي.

ومي تستحقُّ ذلك الاهتمام. وقد صدرتْ عنها، حتى اليوم، عشراتُ الدراساتِ والكتب، التي حاولتْ شرحَ آثارِها، والتأكيدَ على أهمّيةِ حضورها في المشهدِ الأدبي، وتأثيرِها في مجتمعها.

***

وكان قد سبقَ هذا التكريم الأخير لذكرِ مي احتفالٌ أُقيم في العام 1999، عندما اختيرتْ بيروت عاصمةً ثقافية. في طليعةِ الذين أعدّوا للإحتفال الكاتبةُ السورية الراحلة سلمى الحفّار الكزبري. وقد نجحتْ في الحصول على أثرين نفيسين من إرثِ الكاتبة: الآلة التي استخدمتْها في الكتابة، والعودِ الذي عزفتْ عليه ألحانها. وعندما سعتْ سلمى الى نقلِ رُفاتِ مي من مصر الى لبنان، جوبهت بحملةِ رفض معاكسة من قِبَلِ بعض الأدبيات في مصر، حالتْ دون نجاحِ المسعى. واكتفتْ بيروت، في حينه، بالاحتفاء بما خلّفته مي من آثارٍ أدبية وفكرية.

***

ساعد مي، في توسيعِ آفاقهِا الفكرية، إلمامُها بعدّةِ لغاتٍ، الى جانب العربية، بينها: الفرنسية، الإنكليزية، الألمانية، الإيطالية والإسبانية، الى جانب بعضِ اللغات القديمة كاللاتينية والسريانية واليونانية.

وكانت تلك اللغاتُ قنواتٍ مكّنتْها من نقلِ آثارٍ من تلك الحضارات الى العربية، ممّا أضافَ ألواناً جديدةً الى فكرِها وأسلوبها.

***

ومثلما فتحتْ نوافذَها الفكريةَ على رياحِ الكونِ من أين هبّتْ، فقد شرّعتْ مي أبوابَ صالونِها أمامَ أدباء عصرها من خلال ما عُرف بـ "ندوة الثلاثاء"، وكان يرتادُها كبارُ أهل الفكر والأدب، أمثال: طه حسين وأحمد شوقي وعبّاس محمود العقّاد وسواهم.

وقد دوّنَ العقّاد رأيَهُ في إدارة مي لصالونِها الأدبي فكتب:

"كان ما تتحدثُ به ممتعاً كالذي تكتبُ بعدَ رويّةٍ وتحضير. فقد وُهبتْ ملكةَ الحديث في طلاوةٍ ورشاقةٍ وجلاء. ووُهبتْ ما هو أدلُّ على القدرةِ من ملكةِ الحديث، وهي ملكةُ التوجيه، وإدارةِ الحديث بين مجلسِ المختلفين في الرأي والمزاج، والثقافةِ والمقال".

***

وبالطبع، هذه ليست الشهادةَ الوحيدة من معاصريها، إذ كَتَبَ معظمُ روّادِ صالونها شهاداتِ تقديرٍ تؤكّدُ على قيمة تلكَ الأديبة التي تركتْ بصمتَها على فترةٍ فريدةٍ من تاريخ النهضةِ الفكرية والأدبية.