نسرٌ يطير

تقوم أنثى النسر برحلات طيران يومية طويلة تصل إلى 300 كيلومتر في اليوم الواحد كي تحصل على عيدان الخشب الذي تستخدمه في بناء أعشاشها، ويرجع السبب في ضرورة هذه الرحلات الطويلة المضنية إلى أنها تستخدم نوعًا معينًا من الأخشاب يتميز بشدة صلابته التي تكاد تصل إلى صلابة الحديد، كما تتميز هذه العيدان بفتحات في حافتها تسمح لأنثى النسر بأن تقوم بربط الأعواد بعضها ببعض بحيث تضمن متانة هيكل العش الذي تبنيه عاليًا فوق الأشجار، وبعد أن تنتهي الأنثى من جمع الأعواد وتركيبها على شكل عش، وتطمئن إلى متانتها، تقوم بتبطينها بمستويات متعددة من أوراق الأشجار، والريش، والحشائش لحماية أبناء المستقبل من الحواف المدببة في عيدان الخشب.

قبل أن تخرج الكتاكيت من البيض، تقوم الأنثى بمجهود رهيب من أجل الاستعداد للحظة الفقس، وينبع هذا المجهود الشاق من عاطفة فطرية واهتمام فطري غرزه الله سبحانه وتعالى في نفوس أمهات النسور، وبالطبع لا ينقطع هذا الاهتمام بعد أن تخرج الكتاكيت الصغيرة وتبدأ في «الصوصوة»، على العكس من ذلك، تفرح الأم وتبتهج، ويزيد مجهودها من أجل توفير الغذاء لأفراخها الصغار، ومع الوقت ينمو الصغار، ويبدأ التقاتل بينهم على الغذاء الذي تحضره الأم، وعلى المكان داخل العش الذي لم يعد يكفي أجسادهم بعد أن نمت وترعرعت، وتدرك الأم بفطرتها أنها عما قريب ستعجز عن توفير كميات الطعام اليومية المطلوبة لتغذية هؤلاء الأفراخ، آن للصغار أن يعتمدوا على أنفسهم.

 تبدأ الأم بإزالة مستويات من الريش والحشائش وأوراق الشجر من منتصف العش حتى يشعر الصغار بالضيق من وخز الحواف المدببة لعيدان الخشب، فيضطر الصغار إلى التسلق إلى أعلى حرف في العش بعيدًا عن وسطه الذي كان مريحًا ولم يعد كذلك، ثم تبدأ الأم بدفع صغارها إلى مغادرة العش، وحين ينزلق الصغير عن حافة العش، فجأة يجد نفسه يتساقط إلى أسفل، فيفزع ويرفرف أجنحته بهستيرية محاولاً أن يخفف من سرعة السقوط، لينجوَ من موت محقق في ظنه، وتنتهي هذه المحاولات دائمًا بما نتوقعه جميعا: يتمكن النسر من الطيران!!

مثل أفراخ النسر نقضي حياتنا في العش الصغير، نرضى بضيق المكان، وقلة الزاد، ثم نرضى بوخز العيدان المدببة، ونقاوم محاولات دفعنا خارج العش، خوفًا من المجهول، أحيانًا تزعجنا الظروف التي تغيرت، والضيق الذي حلَّ، ولا ندري أن الله قد خلق من أجلنا كونًا مليئًا بالكثير والكثير مما هو أحلى وأجمل ملايين المرات من العش الضيق الذي تعوَّدنا عليه، لقلة خبرتنا بغيره، ولقلة رغبتنا في التجربة.

 

مثل أفراخ النسر لا نثق بقوة أجنحتنا، وقدرتنا على أن نرفرف في عنان السماء، وقدرتنا على أن نجرِّب كلَّ يوم كلَّ جديد مما هو مفيد ونافع ومثير، وبحفظ الله لنا حيثما ذهبنا واتجهنا، فقد أودع فينا قدرات لم نكتشفها على تحقيق الكثير والكثير.

القليل منا فقط منْ يحاول، ومنْ يحاول ينجح ويصل إلى أبعد الآفاق.

أيام العمر منحة من الله، حاولي أن تعيشيها كلها، ولا تجعلي سنتَك يومًا واحدًا يتكرر كل يوم!