لا أدري كيف أوقف شريط الذكريات عندما يبدأ بإطلاق غاراته على قلبي غارة بعد غارة، ذكرياتي التي لا تفارقني وتصرُّ على سرد تفاصيل حياتي مع الإنسان الوحيد الذي سرق مني قلبي وعقلي وأيامي، إنسان كان يمنح الحبَّ والأمل والمرح، ويعطي ويضحي بسخاء لكل من حوله كأنَّه يمتلك خزانة سحريَّة مملوءة بالحياة، فأحببته بقوة وأحبني بصدق. كان حبًا طاهرًا ونبيلاً معه، أخبرني بأنَّني الحبّ الأقوى والأخير في حياته، وبأنني أنا من منحته القوة التي جعلته يحلق بمشاعره في السماء من دون أجنحة، كم من المرات همس لي بشوقه وبالتفكير في يقظته ومنامه، وهو في شدة انشغاله وهو يتحدث وهو صامت.
فجأة غاب عن حياتي، غاب بلا مبررات، وبلا أسباب وبلا حتى وداع، وكاد الخوف يشل أطرافي لاعتقادي أنَّ هناك مكروهًا أصابه، وانتظرت أيامًا وفكرت في أن أكون أنا المبادرة فلعل ظروفه وضغوط عمله منعته، لعل ولعل.. أمضيت أقولها في نفسي والفكرة تراودني؛ حتى ارتحت لها وعزمت على الاتصال به، وقررت وكلي إيمان أنَّه يتحرى اتصالي ويتحرَّق لسماع صوتي، كنت أعتقد أنَّ لهفته مثل لهفتي، وشوقه مثل شوقي، ورغبته في أن يراني ويسمع صوتي ويشتاق للقائي مثلي. نعم كنت أسمع دقات قلبه قبل أن أتصل، واتصلت وسمعت صوته الذي أعرفه بقلبي قبل أذني، لكن تعلل بكل برود بانشغاله، واعتذر لإنهاء المكالمة وبأنَّه سيعاود الاتصال بعد الانتهاء من عمله، ووضعت السماعة وأنا أشعر بثقل العالم فوق أكتافي، وهربت أنفاسي من بين ضلوعي وكأنني أستيقظ من كابوس عميق، وأقول لنفسي هل قلبه الحنون المحبّ لم يستشعر شقائي؟ واستسلمت لمرارة الانتظار، ومازلت أعيش في انتظاره رغم محاولاتي إخفاء مشاعري في أغوار نفسي، وكلما حاولت أن أنساه تعود صورته أقوى ما يكون في ذاكرتي وقلبي حتى نسيت أن أنساه!
انطويت على نفسي بعد أن عبث الحزن في حياتي، وأنا أقلب صفحات حقيقة ما مرَّ بي من أحداث، وما تخللها من مواقف وإن كانت في ظاهر الأمر مؤلمة إلا أنَّها ترطب حياتي.. مسكين أنت يا قلبي ومسكينة أنت يا سعادتي؛ فقد كان وجوده سببًا داعمًا لنجاحي وحافزًا لتجـديد حياتي، كان وجوده يــشعرني بالأمان والسـلام مع نفسي، ولا أظن أنَّ بإمكان أي شخص، أيًّا كان، أن يحل محله؛ لأنَّ له مكانًا في القلب لا يمكن أن يكون لغيره مهما كان هذا الغير جديرًا بذلك.
أنين المشاعر
حقيقي لا أحد منَّا يدري عما تفعله السنون بالمشاعر، فلا شيء يبقى على حاله، فالمشاعر قد تتغير وقد يتحول الإنسان من حبِّ لحبٍّ آخر، لكن هناك فئة كبيرة لا تفترض وجودًا لحبٍّ آخر، فقلبها لا يحتمل سوى الحبِّ الأول والأخير والوحيد؛ لذا تعيش على هذا الإحساس طوال حياتها.