أقضّه أمرها قَلْقَل شأنه، شهران انقضيا منذ وصولها وعقده عليها، لكنه لم يمسسها، لم يقربها، رغم أنها رهن إشارته، وطوع بنانه، إذا أومأ تجيبه، وإذا تطلع تنثني إليه ملبية، وإذا أطرق في حضورها تفهم عنه، لكنها بعيدة ما تزال، جد قصية رغم أنها في المتناول، غير أنه لا يريدها مطويّة، مغلقة الشفرات، صادّة، دافعة، وإن بدا منها غير ذلك.
الأمر دقيق، لكنه ماضٍ، لا يثنيه ما يلقاه منها، والصبر يكون جميلاً محتملاً إذا اقترن بالسعي، والرغبة في الوصول، يسأله المقربون، من تتيح لهم درجات اقترابهم منه عما يشغله، عما يجمد نظرته لحظة اتجاهه إلى نقطة ما، أو استماعه إلى شخص بعينه، لكنه لا يفضي، لا يلمّح، الأمر نزال يصعب البوح به، هو الآمر بأحكام الله، من تطيعه الجموع، ومن ينتظر الكافة رفة رمشه وظلال التعابير على وجهه، هو الساري، النافذ ما بين الثرى والثريا، ما بين الظل وأصله، هو من تضعضع أمره تلك البدوية.
تلك...؟
أهكذا يقترن الاستفهام الممتزج باستنكار خفي، رصين، عند ورود فكرهُ عليها، عند طوافه بصورتها؟ إنها الملتقى، مجمع نساء الأرض، خلاصتهن، وفوحهن الأقصى، عليه أن يلزم حتى إذا خطرت له عند انفراده، عند انقطاعه عن الكافة، واستحضارها بالمخيلة، بين المحيطين به، المهتمين بشؤونه وتدبير ما يتعلق به، نفر لهم حضور قديم في القصر، يقفون على مقربة إذا التقى بواحد من أركان الدولة، أو قاصد لملك أجنبي أو وافد عليه من هنا أو هناك أو طالب حاجة أو متولي شأن، هؤلاء مدربون منذ بدء يفاعتهم على الإحساس به، مراقبة انفعالاته، ورفرفات ملامحه، حتى إذا بدا ضيقٌ سارعوا، وإذا لاح وهنٌ تدخلوا، وإذا بدر ملل من الإصغاء إلى متحدث أوقفوه، وإذا تجاوز أحدهم الحد ولو مقدار شعرة سارعوا.
مشكلته هؤلاء رغم أنهم عون مفترض، ومدد حاضر ساعة وقوع الضيق، أو استقرار العكارة، بعضهم يتقن إدراك ما لا يمكن للآخرين بلوغه، ومن ذلك أحواله في الفراش، ما يرضيه وما ينفرّه، ما يُقبل عليه وما ينأى عنه، ما يسعى إليه وما يتجنبه، لا يصرحون له، بل يبلغون القيِّمات على نسائه، المشرفات على شؤونهن، المتابعات لأحوالهن، لابد من دواء لديهن لكل داء، إنهن مدربات، خبيرات بما يسرُّ وما يكدر، لكن أمره هذه المرة مغاير، يحرص على إخفاء ما عنده، أن يطبب بيديه، وأن يتوصل إلى العلاج بغير مساعدة.
هواها امتداد، فمن هذه الناحية هي أصل وهي فرع، هي سبب ونتيجة معًا لسبب في نتيجة لم تقع بعد، منذ بلوغه أقبل على النساء، عرف منهن أجناسًا شتى، ارتوى في سن مبكرة، كان أبوه رحبًا، متقنًا فنون الحياة، جامعًا الأسباب الحاضَّة، كثير الصون باعتباره خليفة المسلمين وزيادة، ملك الناصيتين، الدين والدنيا، وأراد لابنه أن يكون مثله فأتاح له ومكّنه.
خَبُر البيض والزنج، الشقر والصفر، غير أنه تعلق بالبدويات، وعُرف عنه ذلك، أما الأسباب فأمرها غامض، والروايات في ذلك عديدة، غير أن الشائع منها، المجمع عليه، أن بنيَّة بدوية خلت به أو انفرد هو بها، لم يكن في البداية متحمسًا لها أو مقبلاً عليها، كان خِلْوًا من أي نزوع، ربما لهدوء ملامحها وانكسار حضورها، لم يكن مظهرها ينم عن جوهرها، حقًّا.. عرفت كيف تموه ثراء خبيئتها، وتقصي مكنونها عن كل عين متفحصة، كانت رفرافة، هفهافة، يتخلص منها عند الإبحار بها ألف أنثى، فلكل لحظة انتشاؤها وقدرتها على الغواية المتجددة، حتى إذا فارا لم يدر أحدهما أيهما الآخر، ولم يعد له من الأمر شيء، فلا تفك أسره إلا بإذنه.
لم يعرف مثل ذلك في غيرها، ومنذ تلك الليلة يبحث عنها في كل من التقى بهن، جركسية كانت أو سودانية، صقلية أو هندية، مصرية أو من بنات الترك، اختفت ولم تظهر، حتى قيل إن أحد الخصوم دسها عليه ليعتاد ما لا يمكن الإحاطة به، ليهوى النادر، صعب الشبيه، صحيح أنه أدرك منذ بداية مراحله أن لكل أنثى أريجها، وأن الملمح لا يتكرر، لكن لو اقترنت بالإقامة لتغيّر حاله، وتبدل أمره، ذلك أنه منذ أن عرفها، واحتوت الجذوة الموقدة، صار إلى بحث دءوب في البوادي، أطلق عيونه، وتتبع المصادر، من صحراء مصر الشرقية إلى الغربية، إلى مفازة سيناء وحتى جبل الطور والحجاز وغربًا إلى طبرق وصحاري تونس وامتدادات بلاد الغرب، حتى جاءت الأدلة بخبرها، عجوز من الرحل المتنقلين المعروفين بالغجر أو «النَّوَر»، ولهم في بلاد الصعيد سرحات وجولات، خلال إحداها مروا بسوق يقام في مكان معلوم قرب منازل جهينة الكائنة عند آخر الحد المزروع جهة الغرب، يليها الصحراء الممتدة إلى أفق سحيق، لا يقصدها أحد ولا يجيء منها أحد، وإذا تاه فيها الجمل أو شرد لا يتعقبه أحد، لم تدل الغجرية بأوصاف محددة، لكنها قالت ما قدر على صوغه لسانها، إنها ليس مثلها مثل، ولا يمكن الإحاطة بمكنونها، ما خفي ومنه وما ظهر، وفيما بعد فهم الآمر ما تعنيه المرأة، علم أنها لم ترَ من البدوية إلا عينيها وقوامها.