وذهبت برجلي إلى البركان!

في الطريق الملتوي الذي يشق الجبال العالية.. شاهقة الارتفاع وصلت درجة توتري «ألف في المئة». إننا في مصر نعيش في بلد لا يعرف تلك الطرق التي تخترق الجبال، وترتفع إلى ألفين، وأحيانًا ثلاثة آلاف متر فوق سطح البحر

بدأت الحكاية بفكرة اقترحتها «سارة أدكينزبلانسن» مديرة سيمينار المجلس الدوري للسكان «PRB»، ومشروعه الفريد «الطبيعة النسائية

اقترحت «سارة» علينا نحن عضوات السيمينار «عشر صحفيات من مناطق مختلفة في العالم» أن نقضي الـ«ويك إند» في منتجع سياحي يقع في «أرينال فولكانو» أي «بركان أرينال

أثارت كلمة بركان فضولي فسألتها: هل يستخدمون الاسم على سبيل الجذب السياحي أي للفت الانتباه والترويج للمكان؟

أجابتني بابتسامة واسعة: لا.. إنه بركان فعلاً، ونشط أيضًا!! بلعت ريقي الذي جف فجأة وقلت: بركان؟ نشط؟

قلت لها: انسيني.. آسفة لن أذهب معكن.. رحلة سعيدة

ابتسمت بخبث وهي تقرأ ملامح وجهي الممتقعة، وصوتي المرعوش، وقالت سوف تفتقدين تجربة فريدة ومثيرة، ولكن في النهاية الاختيار لك، ولا أستطيع أن أفرض عليك شيئًا

تركتني جملتها الأخيرة في حيرة

فالحرية كما يقول أنيس منصور في كتابه «الوجودية» مسؤولية، والمسؤولية عبء على الإنسان، فهو حر في أن يختار، وهو الوحيد الذي سيتحمل نتيجة اختياره

وحتى لا أطيل عليكم انتصرت حاستي الصحفية، وفضولي الإنساني، وأخبرت سارة أنني سأذهب معهن في الـ«ويك إند» إلى البركان، أو «الفولكانو» كما يطلقون علية بالإنجليزية

كنت أراقب السائق لحظة بلحظة، وأنا أكتم أنفاسي ترقبًا لما سوف يحدث، بينما ترتسم على وجهه ابتسامة هادئة لا تنم عن أي انفعال. فهذه بلاده التي اعتاد أن يقود سيارته في طرقها، وتضاريسها الغريبة علينا نحن أبناء السهول

وبدأت السيارة تصعد وتصعد وسط طرق ملتوية للغاية، والطريق ضيق لا يسع غير سيارتين في اتجاهين متقابلين أحدهما صعودًا والثاني هبوطًا

ولم يمضِ وقت طويل حتى انهمرت الأمطار الغزيرة.. وهنا أمسكت بمقبض مقعدي.. وقلت يارب!! أمطار غزيرة وفي هذا الطريق

استغرقت الرحلة المثيرة -وسط غابات الأشجار الكثيفة التي تكسو الجبال على الجانبين، والمناظر الخلابة للطبيعة المدهشة- حوالي سبع ساعات. توقفنا خلالها مرتين في الطريق، مرة لمشاهدة بعض الورش التي يصنعون فيها المنتجات البيئية التي يشتهرون بها في كوستاريكا، وأهمها المشغولات الخشبية، وملحق بالورشة محال لبيع الهديا التذكارية التي تحمل اسم البلد، ورأينا العمال وهم يرسمون، ويقطعون الأخشاب الملونة بطريقة فنية غاية في المهارة، وتذكرت عمالنا الفنانين في خان الخليلي

أما المرة الثانية التي توقفنا فيها فكانت لتناول الغداء في مطعم على قمة أحد التلال في منتصف الطريق

وأخيرًا وصلنا إلى محطتنا الأخيرة منتجع «التاباكون» أحد المنتجعات السياحية التي أقيمت بالقرب من بركان «أرينال» النشط، ويرتفع حوالي ألفي متر فوق مستوى سطح البحر

كنا عشر صحفيات من جنسيات مختلفة.. «بيني» من الفلبين، و«يونْس» من كينيا، و«ليند» من أوغندا.. «هاريكالا» من نيبال.. «ساثيا» من الهند.. «سارة» من إسبانيا، و«روبي» من الولايات المتحدة الأميركية

وصلنا ونحن في قمة الإعياء والتعب.. وكنت ألعن قراري (بيني وبين نفسي) بالذهاب إلى هذا المكان الغريب. تسلمنا مفاتيح غرفنا من استقبال الفندق، وذهبت لأضع أشيائي

جاءت زميلتي «يونس» رئيسة تحرير مجلة «الآباء» بكينيا، وقالت: «هيا نكتشف المكان

وبدأت رحلة الاستكشاف لسر هذا المكان الذي يجعل السائحين والميسورين من أهل كوستاريكا يتكبدون عناء الرحلة، ويأتون ليقضوا به يومًا، أو عدة أيام

اكتشاف يفوق الخيال!

وكأن الله قد وضع جزءًا من جنته الموعودة في ذلك المكان

أكثر من عشرة حمامات سباحة تمتلئ بمياه البركان الطبيعية الساخنة، وشلالات المياه صممت لتتخلل تلك الحمامات، كل هذا مصمم بمهارة، وذكاء فائق

المكان أشبه بحلم تراه بعيون مفتوحة، تتطلع إلى السماء وتقول: «يا الله.. ما كل هذا الجمال؟!

قال لي السائق الذي أقلنا إلى هناك: «الناس يأتون إلى هنا كالمجانين؛ ليلقوا بأنفسهم في تلك المياه الساخنة. إنهم مجانين بهذا المكان

كانت الحمامات العشرة مليئة بالبشر. يمرحون، ويستجمون، ويلقون في المياه الساخنة بهمومهم، وتوتراتهم. كل هذا يحاط بالغابات العجيبة بمختلف أنواع الأشجار «حوالي 1400نوع» وأنواع نادرة من الزهور والثمار. فكوستاريكا هي المصدر الرئيس الذي تستورد منه هولندا الزهور، ثم تصدره إلى غيرها من بلاد العالم

من المشاهد التي لا أنساها هذا المشهد لمجموعة من السائحين يتجمعون، ويحمل كل منهم الكاميرا الخاصة به، أو كاميرا الفيديو انتظارًا للحظات التي يظهر فيها البركان، أو قمة البركان التي تنطلق منها ألسنة الدخان، وخيوط النار الرفيعة. فالضباب يغطيها أحيانًا، وعندما ينفتح تظهر قمة البركان فيركض الجميع بسرعة؛ حتى لا تفوتهم الصورة لذلك المشهد الفريد

إنها لذة الاقتراب من الخطر، أو ربما ملامسته، عندما تشعر باهتزاز الأرض تحت قدميك فجأة.. تسمع صوت فرقعة شديدة، وترى في السماء خيوط النار الرفيعة تصنع مشهدًا بديعًا في السماء الحالكة