طبيعة الورد التوهّج، نشر العطر، تجميل المناسبات، ومن دونه الأشياء لا لون لها ولا رائحة.
وردة التي رافقت صوتها أجيال من العرب، جزائرية- مصرية - عربية، رفيقة درب الكبار، صوتها حمل أجمل الألحان، وردة الجزائرية غنّت من ألحان محمد عبد الوهاب وبليغ حمدي وسيد مكاوي وعبد الوهاب محمد ومحمد حمزة، وصولاً إلى آخر أعمالها "بتونس بيك" لصلاح الشرنوبي. ومن ثمّ، ماذا؟
نعم، هذا آخر ما قدّمته هذه المطربة المهمّة، صاحبة "أوقاتي بتحلو" التي كانت معدّة لأم كلثوم فغنّتها وردة صاحبة "حكايتي مع الزمن" و"دندنة" و"العيون السود" و"مقادير" لطلال مداح... والكثير من الذاكرة الموسيقية العبقرية. تابعت وردة مسيرتها الفنية بعد "بتونس بيك" لكن بتعثّر... فقد غاب كبار الملحنين الذين غرقوا بصوت وردة الرنّان، صوتها الطربي المشحون بأندلس المغرب العربي ليبوح بأسراره للمصريين الذين تلقّفوا هذا الإبداع على مدى سنوات كانت ذهبية.
يأتي جديدها باهتاً ذابلاً، رغم المحاولات المبذولة من العاملين والمنتجين على ألبومها الأخير "اللي ضاع من عمري"... فالعنوان وكأنه ندم على مسيرة كلّلها النجاح طيلة عقود من الزمن...
صوت وردة حزين مثقل بالكآبة مقارنةً بذلك "الانفجار" الذي أحدثته أغنية "بتونس بيك" مجتاحة الأسواق الفنية، رغم وجود ظواهر الانحطاط أواسط تسعينيات القرن المنصرم... لكنّ عودة وردة حينها شكّلت أملاً للأغنية العربية، وأخبرتنا أنه ما زال في الأمة إحساس وإبداع لحنيّ لا يقلّ عظمة، وينافس صنّاع الموسيقى العالميين.
"اللي ضاع من عمري" هي مجموعة من الأغاني التي يجمعها البؤس الفني. فأغنية "يا حب مين يشتري" من كلمات أمير طعيمة وألحان خالد عز وتوزيع محمد مصطفى، تعكس ضعفاً في الأداء يظهر من اللحظة الأولى. فليست هي وردة التي غنّت "ليل يا ليالي" وقدّمت بها أصول الغناء الفالت، كما يبدو أثر تراكم السنين وخشونة الصوت وصعوبة التعامل مع الملحنين الجدد جلياً. رغم مراعاة تاريخ وردة، لم ينتبه موزّع الأغنية إلى السرعة التي انطلقت بها الأغنية بعد الموال، فبدا الإيقاع أسرع من الوزن الذي كان مرافقاً للموال.
أغنية "فهموني ليه" محاولة للعودة إلى وردة بخاصية آدائها، كلمات أمير طعيمة، وألحان الموسيقار الراحل رياض الهمشري وتوزيع خالد عز... وجود اسم الراحل رياض الهمشري جعل الأغنية مميّزة. فلولا تعب صوت وردة لكانت الأغنية "الضاربة" في الألبوم... فالكلمات مميّزة ومتسلسلة، والموسيقى متوازنة. طرب خفيف بإيقاع هادىء مناسب لحاسية الكلام، رغم المبالغة في أداء وردة لإثبات الحضور. تتألق الأغنية بمقطع (عشقنا وهوينا/ تعبنا ورضينا/ سهرنا الليالي ياما مع دمعنا / ..
"اللي ضاع من عمري" كلمات هاني عبد الكريم، وألحان وتوزيع خالد عز... تبدو وردة أكثر تأثّراً بها، وكأنّ كلمات الأغنية أخذتها إلى زمن ما، لتبدو مجروحةً فعلاً، وساعد هذا الإحساس صوت الكمان المنفرد المفعم بالحزن الشديد برفقة إيقاع الرقّ (اللي ضاع من عمري لازم ارجع عيشو بعدك/ روحي كانت بين إيدك/ وبإيدك رجعت في بعدك/ ما بقاش في شيء يستاهل ابكي على اي حاجة ابدا)
"عدّت سنة" كلمات عوض بدوي وألحان أمجد العطاف وتوزيع أحمد إبراهيم، (عدت سنة/ حاجات كتير تغيرت/ إلا أنا).. أجواء موسيقية تبدو مفعمة تعكس كلمات الأغنية الرقيقة، فموزّع الأغنية أراد لصوت وردة أن يكون مكرّراً بطريقة (هارمونية) غناء الجملة بطرق مختلفة ومتوالفة. إلا أنّ الصولو الراقص أخذ الأغنية إلى حالة سمعية لا تخلو من الطرب.
توزّع صوت وردة على مجموعة من أسماء الملحنين المميّزين ليصل إلى لبنان "أمل" كلمات وألحان وتوزيع الفنان مروان خوري، صاحب مجموعة من الأغاني الجميلة، وبألحانه استطاع أن يخترق المنظومة المصرية الأكثر التصاقاً بصوت وردة.. تلتقي وردة في هذه الأغنية مع فيروز في جديدها الأخير (إيه في أمل/ مرات بيطلع من ملل) فيما وردة تقول (مش عارفة ليه حياتي ملل/ أمل وهو لسه باقي عندي أمل/ رغم للي جرالي ...) تختلف هذه الأغنية عن باقي أغاني الألبوم من ناحية طغيان أجواء مروان خوري الرومانسية عليها. وتبدو طريقة التوزيع متروكة لصالح الخوري وكأنّ ذلك ينبع من ثقة منحتها إيّاه وردة.
"ضميرك" أغنية تندرج في الألبوم دون تأثير واضح فهي تنسب لمبدأ "تكملة العدد".
كان من المفترض أن تضاف إلى هذا الألبوم أغنيتان للملحّن اللبناني بلال الزين. إلا أنّ خلافه مع "روتانا"، منتجة شريط وردة، حال دون ذلك...
وأيضاً هناك معلومات عن "ديو" سيجمع وردة وصابر الرباعي.
كل هذه المحاولات لن تعيد عقارب الزمن... امبراطوريات تهاوت وعظماء كثر غادروا هذا العالم وبقيت أعمالهم في الذاكرة على طول الزمان... وردة الجزائرية عصرك الذهبي لا يحتاج للفضة. فالذهب يلمع على مدى الأزمان.
الرحمة يا عازفي "الكي بورد"
أناديك يا مجدي الحسيني... وأنت الأشهر على الإطلاق في عالم العزف على هذه الآلة السحرية... التي تشبه البيانو. إلا أنها مجرد لوحة مفاتيح تعزف ما يخطر على بالك، وما لا يخطر.
فيها كل أصوات الآلات الموسيقية، وفيها طبول وزغاريد وأصوات بشرية وحيوانية وفيها هدير وزمير، وفيها صوت القانون والعود ومجموعة الكمنجات، وفيها آلات النفخ بأشكالها المختلفة وفيها ما لم يكتشفه بعد عازف أو مشغّل... هذه الآلة السحرية نجدها أينما ذهبنا في المحلات التي تقدّم الموسيقى نظراً لإمكانياتها الميكانيكية العالية، ولحلولها مكان العازفين الأصليين الذين اختفوا عن المسرح تدريجياً مع تطوّرها.
برزت هذه الآلة على يد العازف المصري الشهير مجدي الحسيني الذي لعب معظم الصولوهات الخاصة لمقدّمات أغاني كبار الفنانين، منهم: أم كلثوم وعبد الحليم ووردة الجزائرية، عدا عن المعزوفات الخاصة التي قدّمها بطريقته المميّزة وكانت السبب في شهرته... فبرغم ميكانيكية هذه الآلة، إلا أنّ الحسيني أرغمها على الخروج من "غربيتها" والاندماج في الموسيقى الشرقية الخالصة، خصوصاً في المعزوفات التي ألّفها عبد الوهاب وبليغ حمدي.
أما اليوم، فقد وصلت هذه الآلة إلى أيدي بعض المشغّلين الذين ليس في قلوبهم رحمة ولا شفقة على آذان المستمعين... فهم سعداء بقدرتها على الضجيج المنبعث من برامجها الإلكترونية، طبول وزخرفات وقرقعات ومفرقعات وأشياء لا حصر لها... يطلقونها والبهجة تغمرهم وهم سعداء بوقوفهم خلفها، وكأنها دبابة تسير على رؤوس الحاضرين.
ما دفعني للكتابة عن هذه الآلة هو حضوري لحفل عشاء في مطعم لبناني في مدينة دبي... فما أن بدأ البرنامج الموسيقي حتى انبرى مشغّل "الكي بورد" إلى رفع صوت آلته فوق صوت الكمان والطبلة، وأصبحت أصوات هذه الماكينة تشكّل 90 % من نسبة الصوت المنبعث دون الدخول في تفاصيل النشاز أو الإضافات غير المبرّرة فنياً... لكن، ما زاد حنقي من هذه الآلة هو إطلاق صاحبها التصفيق المسجّل بعد تقديم أية معزوفة أو أغنية، وبكل وقاحة... وهنا، لا بدّ من السؤال... حتى نعمة التصفيق يريد أن يصادرها هذا العازف المكهرب؟ ولم يترك لنا سوى التفرّج والتعجّب واقتناص الفرص لهنيهة صمت كي نستطيع الكلام والاستماع لبعضنا البعض.
فمجدي الحسيني صفّق له الجمهور العربي على طول البلاد وعرضها، فهو عازف عرفه الجمهور كما يعرف كبار المطربين، وهذ ما يفسّر غياب العازفين المشاهير في هذا الزمن مقارنةً بما كانت تشهده السبعينيات من القرن الماضي، وتبقى الموسيقى ضمن حجرات صغيرة أو في محاولات نخبوية لم تستطع جذب الجمهور إلى داخلها.