عايزين الجمهور مش كده..!
يستوقفني مشهد جمهـور أم كلثــــوم، وتدهشني الأناقة التي يرخيها الأسود والأبيض على صورة تبدو قديمة مقارنة بالحاضر الملوّن... الجمهور الذي كان يرتاد المسرح لهدف غاية في النبل، ألا وهو الإستماع إلى أم كلثوم تغني من كلمات أحمد رامي وألحان القصبجي أو أي اسم ترغبون في أن يكون على لسان أم كلثوم شعراً أو موسيقى...
لا يبارح القصبجي كرسيه المباشر خلف أم كلثوم، حتى بعد وفاته ترى شيئاً ما يلوح في المكان... ولو دخلنا في مقارنة بسيطة لوجدنا ضالتنا والسبب الذي دفعني لكتابة هذه السطور: ماذا لو غاب أو غيّب الموت أياً من موسيقيي فناني هذه الأيام، فهل سيترك كرسيه على المسرح أو هل ستوجّه له تحية عبر إحياء أمسية من النجم أو النجمة تقديراً لذكراه؟ أم سيكون ضمن عتاد النجوم مجرّد ديكور على المسرح (المكهرب) وسط جمهور «متوتر» بفعل الزمن وبفعل الغش الذي تفرضه علينا وسائل الإعلام المرئية التي تطالبنا أن نكون فرحين ومنفعلين ومجانين كي نشبه الغرب في فعل الهوس الإعتباطي الذي يمارس اتجاه النجوم.
الجمهور يجلس في مقاعده يسمع... كم جميل هو هذا المشهد! من يستطيع اليوم أن يجبر الجمهور العربي بالتحديد على السمع من أذنيه وبعيونه إذا أمكن؟ فالأشياء تكمّل بعضها كي نصل إلى الإنفعال الإيجابي، السيدات والأناقة تفوح من حضورهن وإن كنّ من الوسط البرجوازي تلك الأيام، ومعظم الحضور باشاوات... هذه تهمة حسب الثورة الناصرية التي قضت على هذه النخب. وللأسف لم تقدّم البديل، فالثورات المقابلة في المجتمعات الأوروبية حافظت على الإرث الفني بشكله الكامل وتركت محتوياته وأدواته في متناول الجميع... فالمسارح الكبرى ودور السينما وغيرها من صالات الفنون لم تنهب ولم تكسر كما حصل مع المتاحف العراقية وبحضور القوات الأميركية التي أشرفت على تدمير أكبر إرث حضاري في القرن الحادي والعشرين.
نعود إلى الجمهور العتيق، البزات السوداء وربطات العنق والنظارات وقصات الشعر العصرية و«زنود» السيدات الجالسات إلى أزواجهن في براح المسرح يستمعن إلى صوت أم كلثوم يصدح بين الجدران، مدوّياً متسلّلاً كالريح، عاصفاً في كلمات الحب المستحيل... أو المنتظر.. أو الساهر.. أو الزمن والشكوى.. ولكن «أروح لمين وأقول يا مين ينصفني منك..». الكلّ يعرف دوره تماماً في المسرح، الموسيقيون يلاحقون صوت أم كلثوم والمنديل في يدها يلوح ويعتصر بين أصابعها نائحة أو مغرّدة أو مصممة على فعل الغناء حتى تصل إلى قلوب مستمعيها... أي تجربة هذه أثمرت كل هذا الزمن؟ أي إمكانية جعلت من مجتمعاتنا حالة بزمن ما قادرة على مجاراة التحضّر دون فقدان الهوية والشخصية... فالموسيقى عربية والكلمة عربية والمطربة عربية والحضور عربي.. إذاً، ماذا حلّ بهذا الجمهور؟ ما الذي جعله فاقداً لحاسة السمع؟ قبل أسبوع دعيت إلى عرس في أحد فنادق دبي.. لبّيت الدعوة ليحاصرني المطرب وفرقته المسلّحة بكم من الآلات الحادّة وبجهاز صوت استنفدت كل قوته فوق رؤوس المدعوّين الذين أدهشوني هم أيضاً، وسبب الدهشة أن أحداً منهم لم يفكّر ولو للحظة واحدة أن يطلب من هذا «المجرم» أو المطرب أن يخفّف من حدّة الصوت الذي يجلدنا به تحت نظر العروسين اللذين قرّرا أن يحفظا تلك المعاناة بالصور التذكارية على وقع أزيز المفاعل النووي الذي تديره مجموعة من «الرعاع» تحت مسمّى فرقة موسيقية... قد تكون المقارنة غير متكافئة، إلا أن هذا الذي حصل في العرس يحصل في الكثير من الأماكن التي تناط بها مهمة أفراح الناس، والناس هم الجمهور الممتدّ من زمن كانت فيه الأشياء عزيزة وقليلة، إلا أن مصادر الفرح كانت عميقة... أغنية واحدة تكفي، قصيدة واحدة تفتح ساحات النقاش، لحن واحد يرفع الأيادي مصفّقة مهلّلة لكل تفصيل في الجملة الموسيقية.. الجمهور جزء من الصورة، وضع نفسه في خانة المتلقّي القابل لكل ما يقدّم له، يطالبه المطرب «يالله سمعوني الصفقة» فيصفّق، وفي الحفلات المتلفزة يجبره مدير المسرح على التصفيق فيصفّق، يجبره على الصمت فيصمت، يجبره على الحضور فيحضر، ولا ضرورة لأن يعرف لماذا أتوا به إلى هذا المكان فهو ديكور يصفّق.
جوليا بطرس على الحدود
الإطلالة الأولى لجوليا بطرس لا تفرق كثيراً عن آخر إطلالاتها، فمنذ منتصف الثمانينات حين أطلّ صوتها قبل أن نتعرّف إليها، شكّلت جوليا بصوتها «النظيف» ولحن أغنياتها حالة لا تشبه السائد ممّا يسمّى أغنية وطنية أو أغنية شعبية أو أي لون يمكن أن تضع جوليا نفسها فيه ضمن التسميات الفنية، فكانت على الحدود.
لم تغرق جوليا في الأغنية الوطنية، ولم تجارِ السائد من المغنى التجاري، بل تركت حدوداً بين كل هذه التصنيفات. تمنحنا ألبوماً غنائياً كل عام مشكورة، وقليلاً من الحفلات المصوّرة التي تضمّ مجموعة من الأغاني التي ترضي الحضور الباحث عن ضالته من العواطف أو من الحماس أو من العمل الفني البحت الذي تقدّمه أوركسترا أنيقة بمجموعة من الموسيقيين المحترفين الذين ترى وجوهم غارقة في أوراق النوتة الموسيقية المزروعة أمامهم حرصاً على مراعاة الأصول الفنية واحتراماً للمسرح ولقائد الأوركسترا الذي يلاحق صوت جوليا وسط الآلات الموسيقية الحاضرة لهذا الفعل..
وقوف جوليا على الحدود منذ انطلاقها حتى بروز تداعيات حرب تموز بين لبنان وإسرائيل جعلها قادرة على تمرير مشروعها الفني بهدوء كافٍ لنشر أغانيها لتصل إلى أقاصي المغرب العربي وإلى الجمهور اللبناني «المنقسم» بطبعه.. تركت جوليا حدوداً ليقبل بها الجميع، ويحسب لها حين تراجعت الأغنية المعنيّة بالقضية الفلسطينية وتحوّلت إلى خطاب سياسي فارغ يصعد حين يحتاجه المسيّس... أنتجت جوليا مجموعة من الأغاني منها «يا ثوار الأرض» ومنها «بالحيرة وبالخوف كنتوا عايشين» التي وجّهتها للإنتفاضة وبكلمات حينها فعلت فعل الحجارة المقدّسة، سلاح الإنتفاضة التي غنت لها أيضاً «يا حجار هدّ بواب الظلم»..
جوليا بطرس يمرّ إنتاجها الجديد 2010 بحالة ركود، فلم تحدث أغنياتها أي «فرقعة» تذكر بل بقيت في إطار تسجيل الحضور السنوي رغم البذخ الواضح على الإنتاج من ناحية التسجيل والسخاء الموسيقي وإن كان هناك توجّه لخلق أو افتعال حالة شعبية حول أي من الأغاني التي أدرجها الألبوم ومنها أغنية
"على ما يبدو دمه خفيف" تاركة للجمهور التعامل مع كلماتها ولحنها... فمن يريد أن يسخر من شخصية سياسية لبنانية بالتحديد فالأغنية له، ومن يريد أن يصنّفها أغنية خفيفة (مهضومة) فهي له أيضاً.
جوليا اليوم خرقت الحدود وأعلنت اتجاهاتها رسمياً، تشارك في مظاهرة ضد الرحابنة، فرع منصور، متضامنة مع الرحابنة فرع فيروز...
جوليا تشارك جمهور الثامن من آذار ضد جمهور الرابع عشر من آذار، جوليا مطربة الشعب تعيش اليوم في مدينة دبي مع زوجها مدير أكبر مؤسسة أكاديمية «أميركية» في الإمارات العربية د. الياس أبو صعب، جوليا بطرس صاحبة الأغنية الشهيرة «منرفض نحنا نموت»، يموت جزء من جمهورها بعد تخلّيها عن الحدود التي رسمتها بدايتها الفنية الناجحة.