أحجية الروح

د. سعاد الشامسي 
د. سعاد الشامسي
د. سعاد الشامسي

منذ أن أمر الله ملائكته ليشكلونا من طين، بقي جزء ناقص، لا نعلم ما هو تحديداً، ولكننا كبشر مدركين جيداً أننا ناقصين ونكون أحياناً متصالحين مع هذه الطبيعة البشرية التي جُبلنا عليها لسر كامل وكامن، قد نكون وجدنا بدائل سرعان ما تندثر كأن نلهث وراء الأشياء لتُكملنا أو نجرب الحب الذي نتخلى فيه عن أقدامنا وتمارس الجاذبية قدرتها على أن نسقط ولا نعترف.

استيقظت هذا الصباح كأنني خلقت الليلة الماضية فقط، وشعرت بأنني ابنة الحياة المدللة اليوم، وعليّ أن أنتهز الفرصة لأن مثل هذه المشاعر لا تأتي كلما طرقنا باب السعادة، فقررت أن أتناول الفطور خارجاً، كنت وحدي تماماً، ولكني راضية، ولم أشعر بأن على الكرة الأرضية أن تدور مداري، كان فطوراً يُذكر بالبلاد التي تتوه في ذاكرة الشرق، جاءني النادل بقهوة فرنسية طعمها حلو لاذع، فبصقتها قائلة:

- ما هذا الطعم؟

ضحك مني الروبوت الجالس بجانب طاولتي مباشرة قائلاً:

- عجيب لم تتعود على طعم الأشياء بعد، فمكِ مختل قليلاً.

استيقظت من حلمي مذعورة مما رأيت، قررت أن أخبر أمي لعلها تأتيني بتأويله، ولكني تراجعت لأنها ستأمرني بالعودة إلى بلاد الواقع التي طاردت أحلامي.

تحركت من مكاني، ونظرت في المرآة وجدت فمي مكانه، لا علامات عته عليه، فحصت ذاكرة الليل فوجدت رفيقاً يقول ربما أحببتك من كتاباتك، ليتباهى بجرحي أمام زملائه: جرحت امرأة عاشقة مجنونة.

فرفضت الفكرة، وروضت ذاكرة النهار على أن تتذكر طعم الأشياء من دون خيبة تترك مراراً في فمي، أعطيت الأوامر وخرجت من البيت أصفق للسيارة التي ستقللني لمكان عملي الذي اغتال موظفو الموارد البشرية عقول شبابها وشاباتها كأنهم شرائح إلكترونية، وأوصمها بمشاعر لا تمت للإنسانية بصلة غير أنك إنسان آلي ولكن بقلب ينبض، حتى تصبح جاهزة للبيع في أسواق التقاعد بلا رحمة، ويشتري أفكارك أبناء الجيل القادم ممن يُعاني وحدة تمتد حتى تستمر الرحلة بك وبي إليهم، سأسوق لفكرة على أننا نعمل حتى نتقاعد لا نعلم لنحيا افتراضياً أحياء وواقعياً أموات، وستنجح تباعاً لأنني روبوت فائق الذكاء، يعطيك إجابات تشتهيها روحك، يُقدم لك خيارات تريدها، يؤطر حاجاتك، وستخدع نفسك بنفسك فقط بأفكاري.

أنظر للمرآة التي صنعتها في العمل، لم يتغير في وجهي شيء، أطلب القهوة من الروبوت فيأتيني بها خلال ثوانٍ، يأتي المدير ويسألني إن كنت أواجه أي مشاكل في العمل، أجيبه أن المشكلة الوحيدة تكمن أن هذه الأفواه لا تعرف الحب أو الضحك إلا لو ضغطت زراً لتفعيلها، خطا خطوتين وقال مستهزئاً: مشكلة من يظن خلال العمل لابد أن نتفاعل ونحيا والويل لكل روبوت يتفاعل مع روبوت آخر ألقى نكتة والويل لصانعها.

وقف تفاعلي البشري استهزاءه، وقررت أن أنظر في مخزن ذكرياتي، هناك في مجلد صغير وجدت صورة لي في صحراء أمستردام الغنية بالورود السعيدة، اعرف طعم السعادة إذن وكيفية تجنب الحسرة، وهنا في مكاني أنا قطعة ناقصة تبحث عمن يُكمل الفراغ الهائل في روحها، تتعامل مع أدوات حجرية ومكتبية وروبوتات بشرية تحاول صنع الكمال منها بلا جدوى، طرأت فكرة في دماغي قبل أن أغلق الحاسوب الشخصي أمامي، حجزت تذكرة لبلاد عاندتها أزماناً، وغادرت المكان المظلم والبارد معطلة كل الذين ظننتهم سيصلحون ما دمر القلوب.

وصلت للحي الذي تقطنه الأرواح الجميلة النقية، أحاول التوازن على أرض بور للأحلام، ولكن رائحة الأرض أخذت تجذبني كمجنونة غابت عن ليلاها، لم تنقلني سجادة سحرية يا أمي، لم يُصبني خبث الحنين، ولا جنون العشق، ولكني شعرت بأنني إنسانة تمتلك حجة الغياب وأحجيتها "نحن بشر لا روبوتات"، والحلول أمامنا كثيرة، ولكن من يتحرك؟!