إبنة حواء الحالمة

د. سعاد الشامسي 
د. سعاد الشامسي
د. سعاد الشامسي

للعصافير خبرة قديمة في الصباح، استيقظت في تمام السابعة والنصف، سقيت نباتاتي التي أرفض وأستنكر موتها، ويتضح جلياً أنها اختنقت، فتحول لونها من الأخضر إلى أصفر يذبل مع الوقت، أضحك وصوت يقول في داخلي: سيخرج من صلب التربة ما يُعزي موت الأصل. تُحدق حاستي السمعية في زهو أصوات العصافير، أفرح بهذه الأوقات، وأشعر بأني ابنة حواء الوحيدة التي تُمعن في راحة العصافير صباحاً، فتتألق بروعة الطبيعة وتنتصر الصباحات للطبيعة ضد صناعة الإنسان، بعد ساعة ستصرخ الآلات التي تفنن في صنعها الإنسان وتملأ الحي ضجيجاً، فيختفي صوت العصافير وتُنشد الرأسمالية أهدافها!

ضحكت من استخدامي للمصطلح الذي قرأته بالأمس في إحدى الروايات التي غفوت وأنا أقرأها.. يصطبغ عقل الإنسان بالمفاهيم التي فور ما يقرأها في مكان، حتى يعرف تماماً ما تعنيه، ليس مجرد معرفة نظرية، بل معرفة عملية تماماً..

تخيل أنني أُلقي على نفسي في الصباح مُحاضرة: العالم والرأسمالية "حرب طاحنة"،

ضحكت من تأثير القراءة وأخذت أُعد الفطور: بيض مسلوق، جبنة بلدية حيث يُحبها هو، موقِفاً عراكه مع البيض، وزيت زيتون وزعتر، وعلى الرغم من كرهي للطماطم أتفنن في تقطيعها، فمنظرها جذاب وهي مُقطعة بشكل دائري، أحمّص الخبز، فتستيقظ أمي على رائحة النشاط كما تصف الأمر.

- رائحة النشاط تفوح منك.

- صباح الخير.

- صباح النور، ما كل هذا النشاط؟

- لطالما تساءلت: لماذا تصفين الأشياء برائحتها؟

ذهب سؤالي في مهب النسمة التي عبرت من النافذة، هذه عادة أمي، تتجاهل بكل بساطة ما تود تجنبه! قالت عوضاً عن الإجابة:

- هيا، اذهبي وأيقظيهم، وأنا سأنتبه للخبز وسأعد الشاي.

قبل أن أخرج، سألتني عن مكان وجود الراديو، فأنا آخر شخص قد رأتني وأنا أحمله وأدندن مع فيروز في عصرية الأمس.

عصرت ذاكرتي ثم قلت لها:

- نسيته على السطح!

- وهل نسيت كتبك؟

- لا، مثل هذه الأشياء لا تُنسى.

ضحكت حين لمحت شرر مُقارنة بين راديو أمي وكتبي، فبادرت بالاعتراف بمزاحي السخيف، وأني سآتي به من غرفة الضيوف حالاً.

أتيتها إياه، وضعته على رف في المطبخ، وكان يصدح بصوت جوليا المثالي، وطالما تساءلت أن أفضل أوقات السعادة هي الصباح، لكني بالطبع لم أشارك أمي فكرتي هذه، فقد تُثبت فكرة أني أميل للفلسفة في كل أمور حياتنا.

خرجت بفكرتي من المطبخ واتجهت لغرفته، الذي لا يُفهم متى ينام، ومتى يستيقظ، إنه أكبر إخوتي، ورب العائلة بعد رحيل أبي، وجدته مستيقظاً يعبث بهاتفه الكشاف الذي يعتز به.

- صباح الخير، الفطور جاهز!

عدت خطوتين للخلف، لمحت الحقيقة هاربة من ذاكرتي، أمي ميتة منذ عامين، إخوتي حملوا أحلامهم وهاجروا..

ركضت أغلق النوافذ وآتي بالليل كله في حضني، المسلسل الدرامي الطويل الذي أمثل فيه وحدي مع أشباح الماضي..