اعتدت أن تكون حياتي محاطة بالغرباء، أمرّ على أشخاص لا أعرفهم، يدورون حولي كأنها المتاهة التي حذرتني أمي منها في زمان مضى، عازف الناي في المترو يبعث في نفسي حزناً مُريعاً، كلما تجاهلته وجدته معلقاً على أكتافي يشحذ من همة الذكريات لتُعرض في ذاكرتي، يُذكرني أنه ما زال لدي عائلة، وأم كانت تخاف من أن يرشنا أحد بالماء، والشخص ذاته الذي قد يُغرقك حباً، يُبطل فيك المشاعر، فهي التي دفعتني أيضاً إلى بلاد كلما وجهت وجهتي غرست في قلبي نصالاً لا أحد يمد يده لانتشالها.
حتى أولئك الذين طالبوا أن يحبوني، أغلقت الباب في وجههم كأنهم يستعرضون نكتة، فأن تحب معناه أن تفقد نفسك، لا أفكر سوى بالماضي الذي سلبته الحياة مني سهوة، كانت الصورة مذهلة حتى أمر الله ملائكته أن يقصوها وأبقى أنا وأمي، نشحذ من همة الجراح في خاصرتنا.
اعتدت.. حتى تركت الخيارات وأغلقت الأقواس، وتعلمت أن خياراً واحداً كثيراً علي، وأنني أريد السير لموتي من دون أن يترصدني أحد، لو أنها هنا لترصدتني ووقعت في فخ أن أبوح لها بكل شيء، ولكنها وضعتني في برميل إسمنتي وأرسلتني إلى الغربة لألهو بعيداً عن بلاد الجرح!
تأتي أمي بعد أن نبذتني عاماً كاملاً بعد حدث مؤلم بتر روابط قلبينا وتجمد الزمن فينا، تقف أمامي امرأة مهزومة، أنتفض لرؤيتها فجأة، عدت إلى الخلف خطوة لا يمكنني توقع إلى أين تأخذني الهواجس هذه الأيام، ولكني رأيت كل الوجوه بلا ملامح، عدا وجه السيدة التي اختارت أن تصنع من المسافات بيننا غربة.. لم أتجاوز الصدمة رغم خطواتها وحضنها الذي حاول ابتلاعي، ولكنني جرح على هيئة استفهام، كان حضنها سريعاً لا يُعادل جرحي، ولا أحلامها، ولكنها تخجل مما صنعت. أمي امرأة رياضية في الجرح، تحسب خطواتها جيداً، قاطعت سرحاني وسألتني عن حالي، صوت في ذاكرتي يردد: كيف يغيب الإنسان كل هذه المدة باختياره، ثم يأتي ليسأل سؤالاً تافهاً وقاصراً كهذا؟
ومع ذلك أجبت: الحمد لله وبخير، ويبدو أن هذه الإجابة دفعتها لتطبع قبلة على عيني وتقول: ليطيب خاطرك مثل ما اعتدتِ..
هربت، وأخذت أركض من مكاني متمنية أن تخطفني سيارة، وترسل الملائكة لقبض روحي، ولكن الله يُراعي قلب أمي، فعدت إلى البيت، ووجدتها هناك جالسة يداً فوق الأخرى تنتظر عودتي كطفل تائه قد لا يعود، ولكني عدت وعينيها الحادتين من حزن فاتني تخترقان كياني، بت محاصرة الآن، بجرحين.
أخذت تطالعني وتقول: كعادتك الحزن جزء منك، ثم توقفت عن الكلام، ونظرت إلي بعينين تأكلان ما فاتهما. لم أنتظر أن تدير دفة الموقف، عرضت عليها كوب قهوة، فوافقتني على الفور قائلة: كنت أشربها كل صباح وحدي وأستحضر وجهك أمامي.
لم أجب مطلقاً، فقد علمتني الصمت مذ حرمتني أن أصرخ وأبي وأخي جثتين أمامي، منذ ذلك الوقت وأنا أكتم الصراخ في جوفي، بقيت أنا وأمي في أول يوم نرى فيه بعضنا في وجه بعض على نور خافت، وغرفة انبعثت فيها رائحة الموت والتراب، أخبرتني أنها قادمة لتورثني قلبها لكي أستمر في عيش لا يليق، وبحت لها عن حلمي بأنها في كل مرة تحتضنني أسقط.
بكينا سوياً كل الدموع التي كابرنا عليها ولم نحظ بدقيقة نوم؛ لأن جراحنا خدرتنا.
حين صدمتنا الشمس بأشعتها التي تسللت مع أني أحرص على سد المنافذ ومحاصرتها، سمعت أمي تردد، وعلى وجهها الشمس كأنها تشرق منها، تقول: إذا فقدت ذراعيك، فما زال قلبك ينبض.
لقد أدركت مقولتها أخيراً وأنا أقنع أبنائي أن كل جرح له ملحه الذي سيذوب، وأن ما تشعر بأنه ينقصك، دوماً مقابله عوض لا ندركه.