تكلمنا في المقالات السابقة عن أركان التوازن النفسية الخمسة وكان أولها: برمجة العقل على ثقافة الحمد والشكر والامتنان، وثانيها: الإخلاص في العمل، وثالثها: التعلم المستمر، واليوم نتكلم عن رابعها وهو:
رابعاً: المرونة
وهي القدرة على تغير العادات وتبديل السلوكيات، وحتى أبسط المسألة سأقول لكم هذه القصة: "قبل أن أذهب للدراسة في بريطانيا عام 2005م، كنت موظفاً ومعي سائق وسيارة من قبل العمل، وعندي سائق خاص، بمعنى أنه كان تحت يدي سائقين، وعشت تحت هذا المستوى من الرفاهية، ولكن حين ابتعثت في العام نفسه وسكنت في مدينة صغيرة على حدود فرنسا واسمها "رامس جيت"، تنازلت عن هذه الرفاهية واشتريت دراجة هوائية، أذهب بها إلى المعهد كل يوم، أكثر من ذلك حين كنت في وطني، كنت أعيش حياة المترفين، وآكل من طبخ ربة منزلنا السيدة "ماما تيما"، ولكن حين تحولت إلى بريطانيا سكنت عند سيدة غليظة كبيرة في السن وصارمة، فأجبرتني على ترتيب غرفتي وتنظيم سريري وغسل أطباقي، وقد فعلت ذلك من طيب خاطر ومحبة، في محاولة مني لاكتشاف جماليات الحياة الجديدة.
وهذا ما أقصده، إن هذه القصة تلخص ما أريد قوله عن المرونة، وهي تلخص التحول من عادة إلى عادة، ومن سلوك إلى سلوك، خاصةً إذا كنت لا تستطيع تغيير الأشياء، فيتحتم عليك أن تتغير أنت، وفي ذلك يقول العرب: "إذا لم تكن ما تريد، فأرد ما يكون"، ويقول أهلنا الإنجليز: "الأمور التي لا تستطيع معالجتها حاول أن تتأقلم معها".
إن المرونة مهمة في هذا الوقت، خاصة مع بركات وخيرات رؤية 2030م، تلك الرؤية المثمرة التي تحاول أن تعدّل سلوك الناس وعاداتهم وتجعلهم أكثر انضباطاً وأكثر فعالية وأكثر إنتاجية من أجل مواجهة المستقبل، بل والذهاب إليه.
وكم أعجبت بالأستاذة "نظمية" السكرتيرة التي تعمل معي حين استخدمت مفهوم المرونة، فقد كانت تأتي للدوام بسيارة الأجرة ما يكلفها قرابة (1000 ريال)، أما الآن فهي تستخدم حافلات النقل العام "سابتكو" ولم تكابر وتقول أنا متعودة على السيارة، بل استخدمت خاصية المرونة وتحولت من السيارات إلى الحافلات.
إن الحياة هي فن المرونة، والمرونة تعني المسايرة والتغافل، وليس التنازل عن المبادئ والقيم، بل تعني مجارات الواقع والتنازل عن الكماليات التي وجودها لا ينفع وغيابها لا يضر، وقد ذكر المرونة شاعرنا زهير بن أبي سلمة قبل 1400 سنة حين قال:
ومَن لم يُصانِعْ في أمورٍ كثيرةٍ يُضرَّسْ بأنيابٍ ويُوطَأ بمَنسِمِ
وفي البيع والشراء لا بد من المرونة، وفي ذلك يقول ﷺ: "رحم الله امرءاً سَمْحاً إذا باع، سَمْحاً إذا اشترى، سَمْحاً إذا اقتضى" كما سُئل الإمام أحمد بن حنبل :
أين نجد العافية؟
فرد قائلاً: تسعة أعشار العافية في التغافل عن الزلات .
ثم قال: بل هي العافية كلها..!
في النهاية أقول:
إذا كان البعض يتابعني من خانة الناجحين، فسأعترف بسر خطير للمرة الأولى وأقول: "إن من أهم الأسباب التي ساعدتني على تحقيق بعض النجاح هو المرونة التي تضيء البساطة بكل أشكالها، وإذا تمكن الإنسان من فضيلة المرونة، فأنا أضمن له النجاح والتوفيق".