عرفت منذ كنت في الثانية عشرة، أن لدي حقاً عند الحياة، ويجب أن آخذه بقوة، وعزمت على الأمر، صحوت قبل أن يعلو إمام الجامع منبره ليصلي، قبل أن تذكر جدتي الله، وقبل أن تستيقظ الشمس، فتحت النافذة، واستنشقت هواءً جديداً، سمعت حديث الشجر، وتلصصت على خطط العصافير.
تناولت الحليب مع العسل، مشروب قديم صنعت منه عداوة حين بلغت وأقسمت لأمي أني لن أشربه، كان لدي هاجس حوله أنه خلق للأطفال، وكان يُغريني العمر لأكبر سريعاً..
داعبت زهور أمي على نافذة المطبخ، وقلت لن أسقيها اليوم، لأني اكتشفت عبر مدونة على الإنترنت أني كنت بدلاً من إحيائها أقتلها، لقد اقتبست الشرور منك، لكني تعافيت.
نعم أيتها الحياة، لا تُطاقين وأنت تملئين أرواحنا بالروتين، تُحولين ذاكرتنا إلى أجندة ورقية تمتلئ بالمهام اليومية، لن أذهب للعمل اليوم، أنا أحتاج أن أعيد العمر مرة أخرى، أعلم أنه لا يمكن، ولكني سوف أتدارك ما هو قادم..
حين أشعر أن الحياة استنزفت طاقتي، أريح نفسي، كموجة تعبت من صفع الشاطئ رغم فرحها بالأقدام التي تفاجئها بالحضور، ولكن تكرار الأشياء مُر.. نعم، لا خلاف بأن التجربة الأولى من كل شيء جميل ومدهش، ولكن رقم واحد هو الرقم الوحيد الذي تميز بحضوره، فواحد يعني واحداً، وحين أعلمه للأطفال في المدرسة يتعرفون عليه ويرحبون به في كراساتهم، ولكن في الحصة الأخرى يزيد مللهم إذا كررته عليهم، قائلين لقد عرفناه بالأمس، إنه واحد..
نعم نعم أيتها الحياة، أنا أنظر لأطفالك الذين لا يعلمون عن الأمر شيئاً، لا يعلمون أنهم سيبنون حائط العمر بأنفسهم، بركضهم حول الأيام، بتوديعهم اللحظات، بمرور عمر الطفولة كله أمام شاشة التلفاز، وأيادي الكبار الحنونة والمهددة، عجيب أن اليد التي تحن عليك قد تهددك يوماً ما..
مثلك أيتها الحياة، مثلما خدعتني، وأغريتني أن اللون الأحمر هو لون الورد، وحين رأيت ألواناً حمراء حولي كثيرة، قلت لأصدقائي إنها ورود، قالوا لي إنها دماء، اختلفنا فافترقنا..
قطعت حبل أفكاري حين جاء صوت أبي "صباح الخير"
أجبته قائلاً:
هل نحن أطفال الحياة؟
لم نبلغ عمر الزهور بعد
علام تغيير الفصول؟
اليوم الماطر يبللني
والأيام العادية تمللني
ودعت الحياة أمي
لتخرج،
لبت أمي النداء
وقالت لك: لم يعد طفلاً
رد أبي: نعم لم تعد طفلاً، أصبحت شاباً يُعاند الحياة، ويلهو بالأشياء حتى تغتاله..
وهل تغتالنا الأشياء؟ غادر أبي في ذلك اليوم، واغتالتني وحشة البيت بعد أمي.
أخذت حقي من الحياة حين أدركت أنها لا تُعاند، وأنها تعيش كما هي، كمسألة رياضية عصية نقضي عمرنا في محاولة حلها، ولم نعي أن لا حل لها..!