لا تَجتَهِد، فمِن اليوم لم تَعُد لمجهوداتك قيمة، طالما أن أعيُن الناس قد بُرمِجَت على معايير مُختلفة للحُكم على الآخرين وتقييمهم، لا تتحدث عن مهاراتك الشخصية، ولا تُحاول تنمية ذكائك وقُدراتك الخاصة، فلم تَعُد تِلكَ الأمور صالحة للاستخدام، ما أنت إلا صورة، بل إن جميع الناس صور تتحرك على الأرض، لا يرون مِن بعضِهِم سوى واحد بالمائة، أما الباقي فهو مُهمَل..
إن مقاييس رسم الصورة العامة للآخرين تختلف مِن شخص لآخر، فهُناك مَن يملك تلك النظرة الضيقة، حيث لا يرى سوى حجم المال، والجمال، والعمل.. لا يَرى سوى ما "يُرى"، ويتجاهل جوانب أساسية بشخصية الآخرين، هُناك مَن يهتم بالزائل، ويتجاهل الثوابت الصلبة، رُبما هذا هو أحد أسباب مشاكل العصر، حيثُ يزول ما استندنا إليه في اختياراتنا الأولى، وحين تزول تِلكَ المعايير، وتبقى الحقائق دون تغيير، نجد أنفسنا أمام غُرباء لا نعرِف عنهم شيئاً، فكُل ما عَرفناهُ عنهُم الآن قد ذهب، المال يذهب، والجمال يتلاشى، والعمل يتغير، وما يبقى سوى الإنسان وقيمتهُ الجوهرية، هُنا يفوز من فَضل اختيار الجوهر على المظهر، مَن أحكَم عقله قبل أن يُقيم غيره، وفَهِم أن الصورة غير باقية، مهما زادت مُغرياتها.. وأما جوهر الإنسان وصُلب فؤاده، فهو الباقي إلى النهاية، مهما تغيرت الظروف والأحداث، ومهما تغير العالم، فسيبقى طابع الإنسان وملكات عقله، وما ميزهُ الله بهِ عن غيره.. هذا ما ينبغي أن يكون موضع اهتمامنا..
أصبحنا في عالَمٍ يَعِجُ بفوضى المظاهِر والتَجَمُل، بدلاً مِن مُحاولة تغيير هذا الفكر في أذهاننا، فإننا نُساعد على انتشار تِلك الفوضى الفكرية في كيان أجيالنا القادمة، فلم يَعُد الرَجُل يهتم سوى بجَسد المرأة، وجمالها، وأنوثتها فقط. وأهمل كيانها، أهمل ماهيتها الأصلية دونما التجميل، تجاهل قيمتها الداخلية، عقلها، إبداعها، كل ما مُيزت بهِ عن الأخريات، فتجدهُم يتركون كل شيء ويُهرولون فقط نحو الجاذبية المنُبعثة من عيون كل أنثىى..
وتجد مِن النساء مَن يهتممن بالمظهر الخارجي للرَجُل، فتَجدهنّ يُقيّمن الرَجل بما يملُك من مال وأعمال، ويحصرن بأعيُنهن مُقتنياته لحساب قيمة دخله، هكذا صار الرِجال آلاتٍ مُتحركة، يُحكَم عليهِم بما يُنتجونهُ مِن أموال، ومِن قيمة ما يرتدونهُ مِن ثياب، ومِن مُعدل ترقياتِهِم بالطبقات الوظيفية، فلا يَصل منهم سوى قيمة المظهر الزائل، ومتى نتعلم أن تِلكَ المظاهر خادِعة، لا تسوى شيئاً حين نَحكُم مِن خلالها على الإنسان، بل إن من يعتمد عليها في الارتباط العاطفي، فقد وضع نفسه بمُشكلة حقيقية.. هكذا يعيش هذا المُجتمع، في عالمٍ غريب الأطوار، مُتناقض المبادئ، فكَم مِن الكُتُب والبحوث تَحُث الناس على فهم الآخر، والإبحار في أعماق حياتهِ وتفاصيلهِ، و لاتزال تِلكَ الوصايا حروفاً على الورق، لا تُحرِك في مشاعِرنا ساكِناً، وكأننا كُسالى عن التحقق من تفاصيل الآخرين، كأننا اكتفينا بما نراه، وما نتظاهر بهِ أمام المجتمع..
اجتمع بعض الشباب في إحدى المقاهي المشهورة، ظلت كلماتهم تتناثر مِنهُم يميناً ويساراً، كُلما مرت إحداهُن بالقرب مِنهم، هكذا يرى البعض في المرأة جسداً ووجهاً حَسناً، وفي المشهد ذاته اجتمعت الفتيات على الجانب الآخر، يتبادلن النظر إلى شاب يرتدي ثياباً رسمية ويحمل كوب قهوة وهاتفاً آخر موديل، ويبدو مِن مظهره أنه مُكتنز بالمال، وقد زُينت يداهُ بساعةٍ مِن طراز "روليكس" الشهيرة، وقد لمع لونها في أعينهن، فأغرت بلمعانِها قلوبهن، ليُحاولن جذب الشاب إليهن.. ضحكات وغمزات، وهمسات مُغلفة بقدر ما يملُكن مِن أُنوثة وجمال..
إنه ليس المشهد الأول أو الأخير، إنه مسلسل يتكرر كُل يوم، وفي كُل مكان، داء المظاهر يجتاح العالم، رُبما عدُنا إلى عصر أصحاب الياقة البيضاء، وجفت مشاعِرنا الإنسانية، وصِرنا جماداً لا يرى سوى الجماد!
كم مرة شاهدت هذا المشهد؟ وكم مرة كنت منهم؟! فإن سكت وأخذك التفكير لتذكر المشهد! هنيئاً مباركاً لك، فقد أصبحت جماداً بقلب نابض بلا حياة.