كلما صفعتني الأيام، ركضت لأمي بحجم أكبر وعيون أوسع؛ لأن لدي إيمان يتعجب منه جميع الأصدقاء، كلما كبرنا تتوسع أعيننا من كثرة ما بلعنا الأماكن التي مررناها وسط الأصدقاء وبأيادي وحيدة تلوح برضا كاذب، من كثرة تحديقنا بكراسي الانتظار الطويلة التي لم ترأف البلدية بنا حين قررت أن تصممها طويلة الشكل، حين يجلس الشخص عليها وحيداً، المساحة الباقية تزلزل كيانه وتذكره بوحدته، بمشاغله، بحقيقة حياته من كثرة اشتعال النار داخلها وكثرة ما مر الناس أمامنا.
أطل على أمي من خلف الباب فتقول لي:
اقلعي حزنك وادخلي يا ابنتي، إنك في بيت تتوب فيه الجروح.
أدخل من باب يسميه الجميع "باب قلب العائلة" لا تهزمني الدموع التي راهنت عليها في الطريق، أبحث عن يد أمي، أريدها أن تطبطب على رأسي، على جحيم الأفكار داخلها، أن تطرد الصداع منه، أن تذكر الله في وجهي، أن تمد يدها داخل روحي، لتنزع المسامير التي تزرعها الحياة في روحي، لتُعمر طريقاً جديداً مُعبأ بالدعوات والطمأنينة، طريقاً أمر فيه إلى روحي وأدعو الحياة من جديد، أمتن للباب الذي حرص الجميع ألا نخدشه في طفولتنا.
أقول بصوت عال:
فكرة البيت تذهلني، أن يكون ملجأ دائماً، أن تعود له مهما طالت رحلتك!
فكرة الحلم التي تُعطيني تذكرة لعالم اللاوعي الذي أفضل أن أعيش به تُذهلني.
أمد يدي مضيفة: الهواء الذي يُحييني ولا أراه.
أضفت وعيناي معلقة على صورة أبي الذي لم ألتقيه منذ طفولتي:
فكرة القبر الذي سيضمني بعد كل هذه الحياة تُذهلني.
تهزني أمي قائلة: بعيد الشر.
أنظر إليها وأضحك مكملة النثر الذي يتبعثر من فمي منذ وضعت يديها على رأسي تُدلك الأفكار.
فكرة النوافذ التي تعطي البيوت شكلاً، هل تخيلت مسبقاً بيتاً من دون نوافذ؟ سجن لا يُطاق.
ملح الطعام الذي لا طعم من دونه.
بيوت العزاء التي يُنصب الظلام على مداخلها لغياب فرد!
الظلال التي تلاحقنا، وتكسرنا أمام الشمس!
تتساءل أمي: علام هذا القول؟
كلما أصابني حزن، اندفع الكلام من جوفي، فتجدني أسير محادثاً نفسي:
متى نتعلم الاعتراف بأننا راحلون ومتى نعترف بأن الأحق أن ننشر الحب، نعزف الحب، نرقص بحب.
والأهم ألا يكون في قلوبنا ذرة من الحقد، ولا حسد، ولا نميمة، ولا قال ويقولون.
هل لنا أن نخبرهم بأننا جميعنا راحلون وغيرنا سيأتون وما الحياة إلا رحلة تتكرر مع اختلاف الأسماء والتواريخ.
متى آخر مرة طرقت باب قلب العائلة وبكيت كما لم تبكِ قط إلا يوم ولادتك؟