مِن الوَاضح أنَّ كميّة الجَمال، شَكلاً ومَعنى، شِبه غَائبة عَن المُجتمع، الأمر الذي يَستوجب التَّذكير بِه مِن فَترة لأُخرى..!
الجَمَال - كَما يَقول الأترَاك في أمثَالهم - هو "تَوقيع الله"، وتَأتي أهميّة الجَمَال، في أنَّه يَنعكس عَلى التَّصرُّفات، لِذَا يَقول شَاعرنا الفيلسوف إيليا أبي ماضي:
والذي نَفسه بغيرِ جَمالٍ
لا يَرَى فِي الوجُودِ شَيئاً جَميلا!
إنَّه بمَعنى مِن المَعاني يَقول أيُّها الإنسَان: (كُن جَميلاً تَرى الوجُود جَميلاً)..!
لا رَيب أنَّ الكُل يَحفظ الأثر القَائِل: (إنَّ الله جَميل يُحبُّ الجَمَال).. ولَكن مَا الجَمَال..؟!
الجَمَال عِند الفَلاسفة، صِفة تُلحظ في الأشيَاء، وتَبعث في النَّفس سروراً ورِضَا.. وهو نَوعان، نَوعٌ مَعنوي، وهو أحد المَفاهيم الثَّلاثة، التي تُنسب إليها أحكام القِيَم، وتَضم (الجَمَال والحَق والخَير).. وفي ذَلك يَقول الإمَام عَلي رَضي الله عَنه:
لَيسَ الجَمال بأثوَاب تُزيّنُنا
إنَّ الجَمال، جَمالُ العِلْمِ والأدبِ
وقَد سُئل النَّبي صَلَّى الله عليه وبَارك: (فيمَ الجَمالُ، فقَال: "في اللسان").. يَقصد البَيان وحُسن الكَلام، أمَّا الجَمَال الآخر، فهو جَمال حسِّي، يَظهر للمَرء، فيَبعث في نَفسه الحُبّ والسَّعادة. والجَمال مُرادف للحُسن، لذا يَتداخل المَفهومان، وإذا أَطلَق العَامّة مُفردة الجَمَال فهُم يَقصدون "تَناسُب الأعضَاء"، وقِيل: كَمال الحُسن في الشِّعر، والصّباحة في الوَجه، والوَضَاءة في البَشرة، والجَمَال في الأنف، والمَلَاحَة في الفَم، والحَلاوة في العَينين، والظُّرف في اللسان، والرَّشاقَة في القد، واللباقة في الشَّمائِل، والتَّوازن في الأشكَال، والانسجَام في الحَركَات.
إنَّ أهم مَا يَجدر قَوله في أمرِ الجَمَال أنَّه نِسبي، خَاضع للذّوق الشّخصي، فمَا تَستحسنه نَدى قَد لا تَستحسنه رَشا، ومَا يَسرق عَقل نَادية، قَد لا يَروق لشَادية.. وهَكذا..
وإذا قَال شَخص عَن فَتاة إنَّها جَميلة، فلَن يَستطيع أن يُبرِّر ويُبرهن عَلى هَذا الجَمَال، لأنَّ أمر الجَمال رَاجع لذوق المُتحدِّث وثَقافته، لَيس فِيه مِن مَقاييس المَنطق والعَقل شَيء.. لذا قَال أهل الحِكمَة: (إنَّ المَنطق يَتدخَّل في كُلِّ شَيء إلَّا فِي الجَمَال).
إنَّ الحَاجة مَاسة لأن يَعرف النَّاس أنَّ الجَمَال لَيس فِيه جَواب نَهائي، أو جُملة مُفيدة، لأنَّه أَمرٌ شَخصي، ومِثلما يَتذوَّق المَرء الأطعمة يَتذوَّق الجَمَال.
حَقًّا.. لقد صَدق الفيلسوف "أناتول فرانس" عِندما قَال: (إنَّ ميدان الجَمَال واسعٌ تَكثُرُ فِيه المُتناقضات، حتَّى أنَّ باستطاعة المَرء أن يُنَاقَش في مَوضوع تَقدير الجَمال؛ أكثَر ممَّا يَستطيع نِقَاشه في أي مَوضوع آخر..).
في النهاية أقول:
أيُّها القَارئ.. أيتها القارئة: (كُلّ الذي يَأتي مِن الجَميل جَميلٌ).. أكثَر مِن ذَلك لنَزرع الجَميل في كُلِّ مَكان وفق قَاعدة:
ازرَعْ جَميلاً، ولو فِي غَير مَوضعهِ فَلا يضِيْع جَمِيل أيْنَمَا وضْعَا
إنَّ الجَميل ولَو طَال الزَّمان بِهِ فلَيس يَحْصده إلَّا الذي زرعَا!
لقد رَحم الله أجدَادنا عِندما قَالوا: الجَمال مَرحوم، أي أنَّ كُلّ مَا يُسطَّر مِن الشَّخص الجَميل فهو مَقبول، حتَّى ولو كَان خَطأً، لقد جَاء في الأثر (التمسوا الخَير عِند صبَاح الوجوه)، فأين الوجوه الصَّبوحة التي نَلتمس برُؤيتها الخَير..؟!.