أعرفُ أن الإنسانَ يُمارسُ رياضة التأمُّل على الرغم من أنه مجهدٌ من ركض الحياة حوله، لكنه ينتظرُ اللحظةَ التي يكون فيها الطريقُ طويلاً، ليأخذ قسطاً من الدور الذي قدَّمته له الحياة، ويدخل باب بطولةٍ في خيالاته، في المواصلات..
نمارسُ رياضة التأمُّل ونحن في الطريق نحو وجهةٍ ما، نؤدي أدواراً كنا نتمنَّى أن نكون أبطالها في الحياة. كلٌّ منَّا يدخل غرفة سرِّه في حجرةِ عقله، وينطلقُ في خيالاتٍ، تحلُّ مكان المُسكِّن..
أخذت تذكرة القطار، وسرتُ نحو مكاني بكل حماسٍ. أحبُّ الرحلة، لا غاية لي بالوصول، لو تستمر دون أي هدفٍ، حتى نصل لله، لأنَّ الإنسانَ لم يَعُد يُمر. إنَّه موهبةُ تدميرٍ، ويُخبرك أنه كان مضطراً أو دون قصدٍ.
انطلق القطارُ في رحلته، بطيئاً مثل حياتي، سرتُ بخفي حنين نحو مخيلتي، وقرَّرتُ أن أسرح بخيالي لأكون بطلاً، لا يفعل شيئاً، لا شيء على الإطلاق. ورَّطتنا الحياة بالعملية والإنتاج.. أن تنتج مالاً، طعاماً، حيواناً منوياً، يصبح إنساناً..!
ثم تفاجأتُ بإصبعٍ، ينقرُ على كتفَي، التفتُّ، فلاحظتُ أن للإصبع يداً، ولليد جسداً، ولهذا الجسدِ رأساً، يهزُّ كثيراً، وتتوسطه ابتسامةٌ، واليدُ تلوِّح لي. كنت خارجاً من بطولتي للواقع، فقلت: لعلِّي أعرفها، لعلَّها صديقةٌ قديمةٌ، مارسنا ذنوباً صغيرةً سوياً، لكن لا, لا أعرف هذه العيون..
لم أبادر بالنطق بعد، أخرستني بإشارةِ وضعِ إصبعها على فمها. نفَّذتُ الأمرَ دون تفكيرٍ، والتفتُّ مجدَّداً لرحلةِ الأشجار أمامي، لكزتني مرةً أخرى، وضحكت بصوتٍ عالٍ، صوت جذبني لأعود للالتفاتِ للخلف. أشارت للهواء، كأنَّها تراه، وأصرَّت عليَّ في فعل شيءٍ لم أفهمه! أدركت أنها إما مجنونةٌ، أو ساحرةٌ، وراقت لي الأولى، وارتعبت من الخيار الآخر، فاستبعدته، لأني قابلتُ مسبقاً ساحرةً، نبَّأتني بحياتي، فلم أعد أعرف كيف أعيش..
الآن، أمامي مجنونةٌ، تفرح بالهواء، وتفرك يديها حماساً. فتحت فمها قائلةً: انظري للهواء، إنه يفرحُ وهو يُقبِّل وجوهنا، وهو يُحرِّف عرقنا عن مساره، وهو يُوتِّر رموشنا، وهو يغيظ السكون..
الآن، الحياة تُعطيني دوراً ثانوياً، والبطولة للسيدةِ أمامي، سيدةٌ لم يعرف فمها سوى الضحك والقُبلات. خفت فجأةً حين زاد صوت الضحك، تبادر لذهني سؤالٌ، لا تتوقَّف علاماتُ الاستفهام عن الترديد خلفه:
إذا كان المجنونُ يضحك في بلادنا، فما الذي ينقصُ العاقلَ ليضحك؟
وماذا يُكمل المجنون ليبكي؟