سافرت إلى باريس لتحقيق حلم حضور حفلة لمطربي المفضل محمد عبده. وعلى الرغم من الرغبة الملحة لم أتوفق في ذلك من قبل. محاولات متكررة اصطدمت بحدوث طارئ في اللحظة الأخيرة. وحتى هذه المرة كدت ألا أحضر الحفل، فبعد أن اخترت السفر بالقطار تأخر في الطريق، فلم يصل في موعده إلى كولونيا حيث كان قطار باريس في انتظاره. شيء ما جعلني لا أستسلم لإعلان موظف القطار بالاعتذار للمسافرين الذين لن يتمكنوا من لحاق قطار باريس وانتظار الآخر، وهو ما يعني لي أن الحفل سيفوتني. أكاد أكون قد طرت لقطار باريس الذي تأخر لدقائق كانت كافية لأصعد سلم العربة الأخيرة قبل إغلاق الباب، تماما كلاعب يسجل هدف الفوز في آخر ثانية.
في انتظار دخول الحفل اكتشفت أن الكثير من الحاضرين جاؤوا من بعيد: السعودية، الكويت، المغرب ودول أخرى. أغلبهم شباب عاشق لفنان العرب ويودون عيش هذه اللحظة التاريخية، بغناء أول فنان عربي في أوبرا باريس.
وحدهم الذين لديهم علاقة عشق بفنان سيفهمون طبيعة تلك اللحظة التي يظهر فيها على الخشبة، تلك اللمعة التي تنطلق من العيون وذلك الفرح وخفقات القلب التي لا تشبه أخرى. إنها حالة حب من نوع آخر. وهو ما حدث لي ما إن دخل أبو نورة إلى الخشبة. في تلك اللحظة نزلت دموعي من التأثر ولم أكن وحدي، كان لدي شركاء في الدموع مثل شاب جاء من الكويت خصيصاً لحضور الحفل، كانت دموعه تنزلق وهو يغني بحماسة ويقترب من الخشبة وهو في حالة من حالات التجلي، حتى هُيّئ لي أنه يريد أن يفتح قلبه ويدخل فيه محمد عبده.
أربع ساعات متواصلة مرصعة بأغانٍ مختلفة من مسيرة ستة عقود، هي العمر الفني لمحمد عبده والذي وعلى الرغم من تجاوزه السبعين بثلاثة أعوام، إلا أن صوته لايزال صافياً وقوياً. عندما يغمض عينيه ويغني بإحساس يخترق صوته المسامات، ويسري في الروح ليحرك القلب. محمد عبده عندما أسمعه، أشعر وكأن صوته قادم من السماء في ليلة مضيئة بالنجوم في صحراء شاسعة.
في ختام الحفل كنت أسمع الأغنية الأخيرة من الخشبة، فقد كنت في انتظاره لإجراء حوار صحفي. سعادة لا توصف عندما التقيته، فارتباطنا العاطفي بفنان ما يجعله قريباً إلى درجة أن الصورة التي نُكونها عنه في الغالب ما تكون حقيقية. محمد عبده رجل حييّ، متواضع، مغرق بالطيبة، تكاد ابتسامته تضيء المكان، لتخفي حزناً غامضاً غالباً ما يظهر في أدائه لأغنية "شبيه الريح"، والتي تحرك دموعه وهو يغني المقطع المعبر عن تعبه من الظلم.
عندما سألته عن الحلم الذي يريد أن يحققه بعد ستين عاماً من النجاحات، رد إن الشهرة أو المجد أو المال ليسوا دوافعه للفن، جيناته غنائية... قال ببساطة عميقة حلمي هو أن أغني.