زحام الحياة

د. سعاد الشامسي 
د. سعاد الشامسي  
د. سعاد الشامسي

على غفلةِ زمن مني، ستُنجِب صديقتي طِفلتها ونتلاقى في زحام الحياة، الذي تاه به الشعراء والحكاة وقضاة الأمر..
في زمن سابق، حين تكتب المعلمة التاريخ وتضع تحته خطاً، أظنه ثابت لا يتغير وهكذا والله حتى باغتني الآن في وجه ابنه صديقتي، دوماً أغرق في الحاضر، مع أن رمال الماضي تجذبني ولكني أقاومها، في هذه المرة أحببت ماء العمر الذي ينساب من الوجه الذي لاقيته الآن، آكل ملامحها فضولاً، أشكك في مهارة الوراثة، لا قدرة الخالق الذي أحبه كل مرة كأول مرة.. أفك قيد فضولي الذي أحكمته زماناً وأسأل عن اسمها؟
يخرج هواء من فمها مشكلاً صوتاً رقيقاً مثلما كانت تخدعنا أمها، قلت في عقلي:
صوتها.. إنه صوتَها؛ تأكيد ملامِحها.
تجرأت وقلت: كانت أمك صديقتي، وعيناكِ، وليدةُ ذكرياتنا، ورأيتنا في سراب الماضي الذي تبعثر ومحي من لوح القدر؛ كما محت المعلمة التاريخ عن السبورة.. تذكرت ركضنا في الحديقة كغزلان بريئة من ذنوب قديمة حمّلونا إياها الأهالي، نمرح بين النسمات ونقسم قلوبنا على جذوع الشجر، ولا نعرف أننا يمكن أن نُشارك في كتابة أقدارنا أيضاً.. 
أصحو من سيطرة حنين الماضي وأسأل عن حالها:
-كيف أحوالُ أُمكِ غريبة الأطوار؟ من دون أن أنتظر جواباً، أقطع الجملة وأتمعن في عينيها اقتباس القصيدة مثل أمها تماماً حين تتعجب من حديث مفاجئ "دعكِ من أُمكِ قاطِعة الوعود! كيفَ حالُكِ أنتِ؟ لا تكوني مِثل أمكِ يا عزيزتي".
أُمكِ سيئة، أَقنعتني يوماً أنها ستكون معي دوماً، وها أنا منذ ذلك الوعدَ للآن فقط.. أُصادف مَلامِحها في وجهكِ، لِأعرف أنها أَنجبت نُسخة مِثلُها. 
هل تعلمين؟ كُنا نتشاجر كثيراً، كُنتُ أتحداها قائلة: سيُفرِقُنا الزمن، وسأجتمع بابنتكِ مصادفةٌ ولا أعرِفُها!، وكانت تُصر على ترك المصير يسير كما هو مكتوب من دون أن تتدخل فيه حتى ولو بتوقع، أذكر إجابتها الآن وأسمع صوت ضحك الشجر "سَنُسميها سَوياً.."
بالمُناسبة، أمكِ عبثية.. لم تُتعب تفكيرها يوماً في المُستقبل..
توقفت عن الثرثرة، وسألت، وتركت فرصة الإجابة لفرط حماستي:
-ما اسمُكِ؟ 
-أسماء
-أسماء!
ضَحِكت ملامِح صديقتي على وجه ابنتِها، قالت: "أخبرتني أمي عن مغامرات شبابها، التي تؤمن بالقدر وتُسلم له، ولم تنسى أن تُخبرني لم اسمُ أسماء بالتحديد". 
-لستُ بِقدرِ جُنون أُمك. 
-جمعتني في أسماء، لئلا تَخون عهدكما يوماً على تسميتي. 
- أسمَيتُكِ قدر إذاً. 
أدار السائقُ المذياع، وأطعم قلبي بأغنية "عشرين عام"، وهو يتوعد العمر الذي عرف قدره بعدما مضى! 
سَتمُر عشرون عاماً وأُصادِف مَلامِح صديقتي يوماً في أحد الوجوه. 
هل سأخون الزمن وأجالس الحسرة وأطعم قلبي للأغنيات؟!! 
لا، من غير الممكن، سأبتسم للقدر في الوجه المولود من ناحية الشمس، ولن أتذمر من الفراق، لأن هذه عادة الزمن.. 
ولأني عشت عمراً من المفاجآت..