شبح الماضي 

د. سعاد الشامسي 
د. سعاد الشامسي 
د. سعاد الشامسي 

منذ طفولتي أشكك في حقيقتي، وأنا في حضن والدتي وهي تجرب مشاعرَ تضرب في نفسها صاعقات كهربائية، وأنا جالس أمام التلفاز أشاهد الكرتون، وعيوني تغالب النوم مشيراً لأمي، مضيفاً لغة لا تفهمها أنني واحد منهم، من الذين في التلفاز ذوي الأشكال العجيبة والعيون الساقطة وكأنها كوكب تاه عن مساره والتصق في وجه صخري، وأنا في الأحلام أركض أنادي عليها من سريري مهلوساً "هذا العالم ليس عالمي"، وأنا أسهر الليالي على السطوح مشيراً بالليزر لتأتي قبيلتي من الفضاء وتنتشلني من الرعب البشري الذي أنا فيه، ولكن لم يأتِ سوى أبي بيده حذاء العمل ليضربني ولم أسمع يومها سوى ضحك إخوتي..
تشكو أمي تالياً للجارات أن الرسوم الكرتونية أثرت على عقلي وطبَعت الحكايات في ذاتي، حتى صدقتها وكذبت حقيقتي، ولكنني كنت أشعر بغرابة في المكان وعقلي، كنت حين نذهب في موسم الصيف إلى البحر، أشعر بالانتماء هناك، وأبكي حين تقرر العائلة المغادرة، ينتشلونني من على الصخور الرملية التي تمتص جروحاً لا أعلم مصدرها في روحي، ويركضون بي نحو حضن أمي الذي لا يسعني، ويصرخون في وجهي مهددين بأن يرموني في الطريق المظلم، تمنيت أن يحدث هذا، ولكنهم قطعوا بي عائدين نحو المنزل ضيق المساحة في روحي، كنت أحلم بحيتان ثقيلة بأجنحة فراشة حين أنام وأنا أبكي، وحين أستيقظ لا أطيق المشاهد التي يبثها الواقع. 
قضيت طفولتي أفكر بأطفال خارقين يقضون على الأشرار، ومراجيح معلقة في السماء، غيوم صوت ضحكاتها يصل الأرض، وأجنة تطير بأجنحة، وفيل لطيف يدعوني لأرجوحة ممتدة بين السماء والأرض ليدفعني هو بخرطومه الطويل، ينطلق سراح كياني السجين وأفرح، ولكن أمي تأتي لتوقظني من الحلم على عمر الخامسة والعشرين مباشرة! تحمل كعكة صغيرة بين يديها وتغني "عيد ميلاد سعيد" وتأمرني بإطفاء الشمع، أعتدل بخفة، أبتسم في وجهها، ثم أمسك النار بين يدي وأقول: كوني برداً وسلاماً. 
تنظر أمي لي مطولاً ويخرج الكلام من فمها أخيراً: "لقد كنت طفلاً غريباً، تقلع عيني وتلعب بها ثم تعيدها معتذراً". 
نعم، اليوم بلغت الخامسة والعشرين، أقصد انتهيت من هذا العمر غير المفهوم، وغير المبرر، هو عمر يناسب تطلعات المجتمع من حولك وسؤالهم الفضولي: "هل وجدت طريقك" بشتى الطرق.. جميعهم يصبون في مجرى واحد وهو تذكيرك بأنك عدّاء في مسابقة الحياة! 
وأنت تخطو نحو المجهول، يزداد تساؤلك وحنينك نحو الماضي، إلى أين ذهب، أي طريق تؤدي إليه، أريد أن أذهب للبحر مع عائلتي، ان تراقبني العيون كأني مصيبة، أن يهتم لشأني أحد، أمر على بائعة اليانصيب وأقول: 
المستقبل ليس مشجعاً كما توقعناه أمام شاشات التلفاز ونحن نشاهد الكرتون، 
تغير شكل الشياطين، لا قرون لهم، وعيون حمراء. 
أعلم كل شيء من دون أن أجني معرفته.
تنظر لي ملياً وتقول: ألا تريد أن تعرف نصيبك اليوم؟ 
أجيبها بالنفي، لأني أخذت نصيبي، والقبر قلبي. 
الآن، قررت أن أكون شبحاً تعب من الركض بحثاً عن أين ذهبت طفولته.
عدت لأمي على شكل فراشة لكنها كالعادة لم تصدقني!..

د. سعاد الشامسي